علي جمعة: الإيمان بالقضاء والقدر هو التجلي الحقيقي للإيمان بالله

أكد الدكتور علي جمعة، مفتي الجمهورية السابق وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، أن الإيمان بالقدر خيره وشره ليس مجرد مسألة فقهية أو نظرية، بل هو التمثّل العملي والتعبير الحقيقي عن الإيمان بالله تعالى، مشيرًا إلى أن من ذاق حلاوة الإيمان لا بد وأن يكون راضيًا عن أقدار الله ومطمئنًا لما يجري به في حياته من تدابير.
وقال جمعة إن الإيمان بالقدر يعكس الثقة التامة في الله، والرضا به ربًا ومدبرًا، موضحًا أن ذلك من ثمرات الإيمان بالله عز وجل، حيث يقرّ العبد بأن كل ما يقع في هذا الكون إنما هو بعلم الله وكتبه في الأزل.
دستور الإيمان بالقدر
استشهد الدكتور علي جمعة بقول الله تعالى:﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: 49]
وهو نصّ قرآني يرسّخ العقيدة في أن كل ما في الكون خاضع لحكمة إلهية وقدَرٍ مكتوب لا يُخطئ، ولا يُبدّل.
كما استدل بوصية الصحابي عبادة بن الصامت رضي الله عنه لابنه حين قال:"يا بُنيّ، إنك لن تجد طَعمَ حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليُخطئك، وما أخطأك لم يكن ليُصيبك. سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب. قال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة."
ثم قال ﷺ: "من مات على غير هذا فليس مني."
رواه أحمد وأبو داود
حديث ابن عباس
ومن الأحاديث الجامعة التي نقلها الدكتور علي جمعة في حديثه، قول النبي ﷺ لـعبد الله بن عباس رضي الله عنهما:"واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك. رُفِعت الأقلام وجفَّت الصحف."
رواه أحمد والترمذي.
وهو حديث يُرسخ اليقين الكامل بأن نفع الناس وضَرّهم لا يكون إلا بإذن الله، ويعلّم المسلم كيف يسلم أمره لله دون قلق أو سخط.
الحكمة من القدر
أوضح جمعة أن في قضية القدر حكمة ربانية عليا، وهي اختبار رضا العبد عن قضاء ربه.
فالعبد يتمنى ويسعى، ولكن عندما لا تتحقق أمانيه، يظهر معدنه الحقيقي:
فإن رضي بما قدّره الله، رغم أنه خالف ما خطط له، فهو من المؤمنين الصادقين.
أما إن سخط واعترض على القضاء، فهو في خطر الخروج عن الطاعة، بل قد يصل إلى الكفر والعياذ بالله، كما حذر أهل العلم.
لا فعل إلا فعل الله
أكد الدكتور علي جمعة أن من تمام الإيمان بالله أن يوقن العبد بأنه "لا فعل في الكون إلا فعل الله"، مشددًا على أن كل ما يجري، قديمًا وحديثًا ومستقبلًا، هو بإرادة الله وحده.
لكن في الوقت نفسه، أوضح أنه لا تنافي بين الإيمان بأن الله هو الفعّال لما يريد، وبين كون الإنسان مختارًا مسؤولًا عن أفعاله.
وقال في هذا الصدد:"اختيار الإنسان وإرادته أمر محسوس لا ينكره عاقل، وقد أثبته القرآن الكريم في مواضع عدة، منها قوله تعالى:﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ [البلد: 10]،وقوله: ﴿مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ﴾ [آل عمران: 152]."
وأوضح أن الإنسان لا يخرج عن قهر الله وإرادته، ولكن له إرادة جزئية تقع ضمن الإرادة الكبرى الإلهية، وهو مسؤول عنها في ميزان التكليف والحساب.
سر القدر في عين العارفين
وفي ختام حديثه، أشار الدكتور علي جمعة إلى قول أحد العارفين بالله، أبي العباس الحريثي:"من نظر إلى الخلق بعين الشريعة مقتهم، ومن نظر إليهم بعين الحقيقة عذرهم."
موضحًا أن العارف الحقيقي مستبصر بسرّ الله في خلقه، لا يحكم على الأحداث من ظاهرها، بل يرى يد الله تعمل في كل شيء، ويوقن أن كل ما يجري في الحياة، خيره وشره، له حكمة إلهية قد تخفى على العقول، لكنها لا تغيب عن قلوب أهل الرضا واليقين.