رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
المشرف العام
سامي أبو العز
رئيس التحرير
ياسر شوري
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
المشرف العام
سامي أبو العز
رئيس التحرير
ياسر شوري

السلع المغشوشة تغزو الأسواق.. والغلاء يُعمق المعاناة

هنا أرض البطون الخاوية| حكايات الجوع في غزة

احتشاد الغزيين على
احتشاد الغزيين على تكية بمواصي خان يونس

محمد الكتري: كيس السكر فيه ملح.. والطحين مخلوط بالرمل!

محمد عزمي: 14 ألف طفل علقوا محاليل بالمستشفيات من الجوع

أحمد أبو عودة: الحرب تقتلنا يوميًا.. وأملنا الوحيد دخول المساعدات

صاحب تكية بمواصي خان يونس: نطهو 30 قدرًا.. ونُحرج أمام 70 عائلة تعود جوعى



في غزة لا يصل الغذاء ولا الإغاثة، معابر مغلقة، ومساعدات ممنوعة، وجوعٌ ينهش الأجساد، ولا مكان للغزّي سوى السوق المزدحمة، لا بالبضائع فحسب بل بالغش والجشع، فتُّجار القطاع دخلوا على خط المعاناة، حوّلوا الحصار إلى فرصة، والجوع إلى صفقة، وكأنهم يقايضون الناس على أنفاسهم!
الأسعار بالأسواق طالت السماء، ورفوف المحال امتلأت بسلع مغشوشة تُباع كأنها نجاة؛ طحين مخلوط بالرمل، وقهوة محشوّة بالحمص والعدس.. وبين هذا وذاك تقف بطون خاوية تُفتّش عن فتات خبز وسط أكياسٍ مسمومة! 

الرقابة غائبة، والبدائل معدومة، والمجاعة تزحف بلا استئذان، تطرق أبواب الغزيين الذين ما عادوا يملكون سوى الصبر والصمت.
هذا التحقيق يفتح صندوقًا من الألم المسكوت عنه: من سرق لُقمة الغزي؟ ومَن جعل مِن احتياجه تجارة رابحة؟ ومن يُحاسب من يقتاتون على وجع شعب محاصر؟
 


رمل وشيد في الطحين.. خداع بالجملة


"ندفع دم قلبنا في وهم معبّأ".. بهذه الكلمات بدأ محمد الكتري، مخيم جباليا، حديثه لـ"الوفد" قائلًا: "مش بس الاحتلال اللي بيقتلنا، إحنا كمان بنتعذّب على يد تجّار بلدنا.. بعد ما أغلقوا المعبر، اختفت السلع الأساسية من السوق: لا طحين، لا سكر، لا زيت.. وكل شيء رجع يطلع من المخازن بالتدريج وبأسعار نار.. كيس الطحين اللي كان بـ30 شيكل، صار بـ1700 شيكل! الزيت كان بـ7 شواكل، صار بـ100، كيلو السكر اليوم بـ100 شيكل، وجرة الغاز بـ1000 دولار! أي عقل يتحمل هيك أرقام؟ ما في شغل، ما في دخل، كيف بدنا نعيش؟!

تكية مواصي خان يونس
تكية مواصي خان يونس


وتابع: "صاروا يبيعونا الحاجات المغشوشة بسعر الذهب، في ناس بتبيعنا الرمل بدل الطحين والسكر! شفت كيس طحين في قلبه رمل، وفيه اللي بيخلط الطحين بـ"الشيد" تبع البناء وفيه يخلط ملح في السكر، والغش ماشي! جرة الغاز بيحطوا فيها ميّة وكيلو غاز وبس، ويبيعوها بسعر مجنون.. ما في رقابة ولا حساب، وما في رحمة، كأنهم بيكملوا علينا بعد اللي عمله الاحتلال".

لقمة مغموسة بالرمل.. الغزّيون بين مطرقة الحصار وسندان التجّار


وأكمل: "أمي المسنة ما بتقدر تشرب بس شاي، أولادي بيطلبوا أكل، كنا ناكل ثلاث وجبات، اليوم وجبة وحدة، رز أو عدس، وهذا لو لقينا.. رغيف الخبز صار حلم، إحنا تحت حصارين؛ حصار الاحتلال وحصار التجار، صِرنا ناكل من التكيات اللي توزع وجبات على النازحين، لكن حتى هاي صارت مستهدفة، ابني وقف في طابور التكية 3 ساعات، رجع يبكي، لأنه لما وصله الدور، الحصص كانت خلصت، وبعد سرقة المخازن، أغلب المؤسسات بطلت تشتغل".

المجاعة في غزة
المجاعة في غزة


واستطرد: "المعابر مغلقة والمساعدات ممنوعة، بس الأسواق مليانة بسعر جهنم، وفيه مساعدات إغاثية تُباع في السوق، المفروض تنوزع، يسرقوها ناس بأيدٍ خفية، ويبيعوها للفقير اللي مش لاقي ياكل! بقول للتجار: اتقوا الله شعبكم جائع، مش ناقص موت جديد، ساعدونا بدل ما تتاجروا فينا.. التاريخ ما بينسى، بطلب من العالم بس الدعاء؛ الدعاء بأن تنتهي حرب الإبادة الجماعية اللي دمرت كل شيء فينا، لا بدنا مؤتمرات، ولا ملايين تُسرق باسمنا.. بِدنا حياة بس".


اختتم "محمد" حديثه: "استُهدفت أكثر من عشر مرات بشكل مباشر، وشقيقي أسير، استشهد أبي واثنين من أولادي وبقيت على قيد الحياة لأشاهد موت من نوع آخر، موت الجوع بعد ما استنزفونا بالقصف، أنا مواطن من غزة تقام الحروب باسمي، وتُعقد المفاوضات لأجلي، وتأتي المليارات على معاناتي، ويسرق المبادرون على اسمي، ويلعب التجار في قوت رزقي، وفي آخر المطاف لا أجد قوت يومي".


غزة جائعة


بينما قال محمد عزمي، أحد سكان شمال قطاع غزة، لـ"الوفد": "من حوالي سبعين يوم، لما رجعت الحرب بأواخر رمضان، قررت الحكومة الإسرائيلية تسكّر كل معابر قطاع غزة، ومن وقتها والأسعار عم تطلع يوم عن يوم، مع إن الأسعار كانت بالأصل مش بمتناول حدا، بس بعد إغلاق المعابر، صارت أضعاف مضاعفة، وصارت السلع الأساسية تشح من السوق، وبعض التجار للأسف استغلوا الوضع، وبلشوا يحتكروا أصناف معينة، هي اللي حياتنا اليومية معتمدة عليها.. المواطن الغزي، اللي من سنتين وهو مهجّر ومسحول بالحرب، اليوم حرفيًا قدّام مجاعة بمعناها الحقيقي، الأطفال، النساء، الشيوخ، الكل عايش بالخيام، بالشوارع، بين الأزقة، وبتشوفيهم بيتلووا من الجوع يوميًا.. ما في طعام، ما في مساعدات، لا من وكالة الغوث، ولا من المنظمات الدولية، وكأنه الناس تُركت لحالها؛ أكثر من 14 ألف طفل دخلوا المستشفيات بس عشان يركبلهم محاليل لأنهم ما بيأكلوا.. في حالات وفاة من الجوع صارت فعلًا، والوضع يوم عن يوم عم بيزيد سوء".

 

وأضاف: "المصيبة الأكبر إنه في تجار واضح إنهم أداة بيد الاحتلال، ينفذوا سياسات تخدم هدف واحد: تجويع الناس، الاحتلال غضّ النظر عنهم، لأنه هدفه الأساسي إنه يخلّي المجاعة تنتشر. مؤخرًا تفاجأنا بتاجر قدر يدخل أجهزة تلفونات محمولة وألواح طاقة شمسية، وهي أصناف الاحتلال مانع دخولها من أول الحرب، دخلوا مقابل الدفع كاش فقط، مش عن طريق تحويلات أو تطبيقات.. النتيجة؟ تم سحب الكاش من السوق، وصار ما في سيولة نقدية، وهذا ساعد الاحتلال بزيادة الأزمة.. أما الغش؟ فبلش من أول الحرب، بس كان قليل، اليوم صار الغش بكل شيء تقريبًا: الدقيق مسوس، القهوة، حتى مواد التنظيف مغشوشة، وكلها بأسعار خيالية. والأسوأ؟ إنه كتير من البضائع المعروضة بالسوق، هي مساعدات مكتوب عليها "منحة من الشعب المصري" أو "من الشعب السعودي".. بس بتنباع علنًا! في جمعيات بتاخد المساعدات، وبدل ما توزعها كلها، بتبيع جزء منه، الناس عم تتفرج على المساعدات، اللي المفروض توصلهم مجانًا، عم تباع قدام عيونهم وهم مش لاقيين ياكلوا!".

الطفولة تُنتهك في غزة
الطفولة تُنتهك في غزة

وتابع: "الشغلة اللي قليل بيعرف عنها برا غزة هي موضوع تجار العملة؛ البنوك مسكرة من 7 أكتوبر، والموظف ما بياخد راتبه إلا عن طريق تجار العملة. هاي التجارة بلشت تاخد 3% من راتب الموظف، واليوم صارت تاخد 40%! يعني إذا حدا إله حوالة بألف شيكل، بياخد منها 600، و400 بيروحوا للتاجر، هاد ظلم وحرام، والحكومة ساكتة.. مين المسؤول عن اللي بيصير فينا، الوضع النفسي ما حد بيقدر يوصفه؛ سنتين حرب، تهجير، جوع، عطش، رعب مستمر.. أنا شخصيًا زوجتي مصرية، ومصابة بالسرطان، قدرت أطلعها هي وأولادي من غزة بعد 200 يوم من بداية الحرب. بس أنا ظلّيت، لحالي. من يومها وأنا مش قادر أوفر لا إلهم ولا إلي، عايش بخيمة، ما في أكل، من أسبوعين ما شفت خبز ولا عندي طحين، ولا بقدر أشتري من السوق بناكل كل يومين وجبة واحدة، على شو ما قسم الله. رز، شوية حلاوة، أي شيء. والأدهى؟ إنه الاحتلال، والتجار، وبعض اللي ماسكين ملف المساعدات، بالنسبة إلنا، كلهم وجه واحد. فوق 70% من المساعدات اللي دخلت من بداية الحرب ما وصلت للناس، انباعت أو اختفت”.

وأنهى "عزمي" حديثه: "غزة مش هيك.. غزة كانت دولة في قلب المدينة، كانت مدينة مؤسسات، جامعات، مدارس، فيها مطار، ناسها مثقفين، ما فيها أمي واحد.. اليوم، دمروا كل إشي. البشر، الحجر، وحتى الكرامة.. كل اللي بنتمناه، إنه الحرب تخلص.. لأن بدون ما تخلص، ما في أمل، لا بالأكل ولا بالحياة... أنا اليوم عايش على أمل واحد: إني أرجع ألتقي بولادي صارلي سنة ما شفتهم".
 


سوق مغشوشة


أمّا أحمد أبو عودة، من بيت حانون، فخلال حديثنا معه أشار: "بأيام الهدنة كانت الأمور أهون شوي، المعلبات كانت بأسعار مناسبة، العلبة بلحمة أو فول أو حمص أو بازيلا، كانت بشيكل أو شيكلين بالكثير.. الدجاج الكيلو ما كان يتعدى الـ20 شيكل، وكان متوفر نوعًا ما، والناس قدروا يشتروا ويخزنوا، بس أول ما فشلت الهدنة، التجار قلبوا الدنيا فوق تحت، السكر صار الكيلو بـ90 شيكل! العلبة اللي كانت بشيكل، صارت بـ10 شيكل أقل شيء.. علب اللحمة اللي كانت بـ2 شيكل، اليوم بـ20 شيكل! التجار هدول أخطر من الاحتلال نفسه، لأنه ابن بلدك هو اللي بيستغلك، مش العدو.. والوقت مش بإيدنا، ولا بإيد غيرنا".
وأضاف: "أنا واحد من الناس، أقسم بالله ما معي أشتري كيلو طحين! كل شيء غلي 50 ضعف، وكل يوم بننزح من منطقة لمنطقة، لا مواصلات، ولا كهربا، ولا مياه، ولا حياة من أساسها. والله أمشي بالشارع وأتمنى الموت بأي لحظة، أهون من هالذل اللي عايشينه.. الكل صاير يحكي "اللهم نفسي"، ولا حدا سائل فينا".

المجاعة تخيم على غزة
المجاعة تخيم على غزة


وتابع: "قبل يومين وزارة الاقتصاد نزلت تسعيرة للخضرة، بس التجار زادوا الأسعار بالعكس، فوق الأربعين بالمائة! كل شيء صار مضروب، القهوة اللي بنشتريها، والله فيها عدس وحمص مطحون، وبيبيعونا إياها على إنها قهوة أصلية، السكر بيطلع ملح، والطحين مغشوش، والبهارات نفس الشيء، الزيت؟ بيحطوا على السيرج نكهة زيت زيتون وصبغة خضراء عشان يبين زيت زيتون ويبيعوه بالسوق، وهو بالأساس سيرج مغشوش كله نصب واحتيال، ولما المعبر تسكّر، التجار صاروا يطبعوا أكياس قهوة "أزحيمان" اللي كانت تيجي من الضفة، ويعبوها بعدس وحمص مطحون، ويبيعوها على إنها قهوة! حتى الدجاج المجمد وصل سعره لـ500 شيكل، مين بيقدر يجيبها؟ إحنا؟ ولا حتى نحلم!..  من أول رمضان ما أكلت دجاج إلا أول يوم، وبعدها ما قدرت أجيبه". 


اختتم "أبو عودة" حديثه: "عندي أربع أولاد، الكبار مستوعبين الوضع شوي وبيتحملوا، بس الصغير؟ ما بعرف شو يعني حرب، ما بفهم ليش ما في أكل وشرب، بحاول أدبرله لو الحد الأدنى، وأطعمه.. بس شو أعمل؟ اليوم إذا بطلع من الخيمة، بطلع بس لأهرب من طلبات أولادي، مش عارف ألبّي شيء، ولا أوفر أي شيء..  بنتمنى، والله العظيم، إنه الحرب توقف، وتدخل المساعدات بسرعة، لأنه الناس جاعت وانتهت، إحنا بنموت كل يوم ألف مرة".
 


قدر فارغ


تواصلت "الوفد" مع هاني أبو القاسم، صاحب تكية بمواصي خان يونس، قائلًا: أطلقنا أول تكية خيرية "تكية رفح الخيرية في قطاع غزة عام 2016 في مخيم الشابورة بوسط رفح، أكبر منطقة كثافة سكانية في العالم، هدفنا نطهو الطعام مجانًا للأسر غير المقتدرة بأنواع بسيطة: أرز، معكرونة، فاصوليا، بازيلاء، وكل ما يتوفر بالسوق، ونعتمد في تموين المطبخ على أهل الخير داخل القطاع وخارجه، ونطهو يوميًا 30 قدرًا، كل قدر يكفي 70 أسرة، المفروض نطبخ 100 قدر لتغطية كل المحتاجين الذين يأتون إلينا، لكن بفعل الحصار وسياسات الاحتلال التي تجوع الناس، وغلاء المواد التموينية، وارتفاع عمولة الصرافة، وندرة السيولة، قدراتنا انخفضت إلى ربع المطلوب، فتجد الكثير من الأسر يرجعون لخيامهم دون طعام".
وعن آلية عمل التكية قبل وبعد الحرب قال: "قبل الحرب كان التوزيع كان محصورًا على الفقراء والمساكين، أما الآن فنوزع على جميع النازحين لأن “الكل هنا فقير ومحتاج”.
وعن التحديات التي يواجهونها أشار: "الصعوبات اليوم أكبر مما نحتمل: المواد الغذائية نادرة أو غالية بأسعار جنونية.. كيلو الرز صار 15 دولارًا بدل 2 دولار، والمعكرونة من نصف دولار صارت 9 دولارات، وهكذا، ونضطر نواجه مشكلة السيولة: لو أُرسل لنا تبرعًا بـ100 دولار، يصلنا فعليًا 60 دولارًا بسبب عمولات "تجار العملة"، وهذا أثر سلبًا على تبرعات أهل الخير.

احتشاد الغزيين على تكية بمواصي خان يونس
احتشاد الغزيين على تكية بمواصي خان يونس


وأضاف: الأعداد زادت بنحو 150% منذ إغلاق المعابر قبل شهرين: روّاد التكية كانوا محصورين بنازلين معروفين، واليوم يأتون من 10–15 كيلومترا مشيًا منذ الصباح الباكر لطلب وجبتهم، المواد صارت شحيحة جدًا، وأسعارها تجاوزت أغلى دول العالم، فقلّ عطاؤنا وقلّ نفعنا رغم حرصنا.. أما التجار، فقلة منهم تخاف الله، لكن الغالبية يحتكرون السلع ويرفعون الأسعار بلا رادع، مستغلين صرخات الأطفال والشيوخ والنساء؛ بعضهم يتعاون مع الاحتلال لإنجاح خطة تجويع شعبنا.


وعن أصعب المواقف قال: "نتعرض لمواقف لصعبة يوميًّا: أسر تقول إن بطنها لم يدخلها إلا الماء منذ ثلاثة أيام، وناشدونا نوفر لهم الطحين، والآن صاروا يعجنوا المعكرونة بدل يحضّروا طبخة كاملة.. هذه هي معاناتنا على لسان من يقف خلف القدر: قلبه مكسور، وهو يسعى لإشباع جوعى مخيمٍ يُصعب عليه حتى حلم وجبةٍ واحدة".


غزة اليوم لا تبكي فقط شهداءها، بل تبكي أيضًا لُقمتها أمام جريمة أخلاقية وإنسانية مكتملة الأركان.


ويبقى السؤال: من يُحاصر غزة؟ الاحتلال وحده.. أم القلوب المتحجرة داخلها؟!