رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
المشرف العام
سامي أبو العز
رئيس التحرير
ياسر شوري
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
المشرف العام
سامي أبو العز
رئيس التحرير
ياسر شوري

12 عامًا خلف القضبان.. واليوم خلف الحدود

«الوفد» حلقة الوصل بين الأسير المحرر حسام الزعانين وعائلته بالقاهرة

محررة الوفد مع عائلة
محررة الوفد مع عائلة حسام الزعانين

* الأسير المحرر: أتمنى لم شمل عائلتي في مصر
* «الزعانين»: ظروف الاعتقال كانت صعبة.. وهددوني بقتل ابنتي أثناء علاجها فى إسرائيل

* أطلقوا علينا الكلاب المسعورة فى سجون الاحتلال.. وقتلوا زملاءنا بغازات البودرة والفلفل الحار

* واﻟﺪﺗﻪ: اﻟﺤﺮب ﻣﺰّﻗﺘﻨﺎ وﻓﺮّﻗﺘﻨﺎ ﻋﻦ ﺑﻌﻀﻨﺎ.. وﻓﺮﺣتي ﻣﻨﻘﻮﺻﺔ ﻷن اﺑني في ﺑﻠﺪ وأﻧﺎ في ﺑﻠﺪ آﺧﺮ

* زوﺟﺘﻪ: أنهى دراﺳﺘﻪ اﻟﺠﺎﻣﻌﻴﺔ داﺧﻞ اﻟﺴﺠﻦ.. وﻛﺎن ﻗﺪ ﺗﻮقف ﻋﻨﺪ اﻟصف اﻟﺮاﺑﻊ اﻻﺑﺘﺪائي

* اﺑﻨﺘﻪ ﺗﺴﺄل: ﻣتى أراك ﻳﺎ أبي؟

ليس كل من تحرّر عاد، فكم من أسيرٍ خرج من ظلمة الزنازين ليجد نفسه سجين المسافات، غريبًا عن أحضانه الأولى، محاصرًا بأسلاك الحدود أكثر مما حاصرته جدران السجن!
حسام الزعانين، أسير فلسطيني، ظنّ أن باب السجن حين يُفتح سيقوده إلى ذراعي أمه، وإلى حضن زوجته وضحكات بناته اللاتي غادرهن وهن في المهد، احتجز الاحتلال عمره في غياهب السجون لاثني عشر عامًا، وحين كُسر القيد، وجد أن الأسر لم ينتهِ، بل تغيّر شكله، وأصبح حاجزًا أشد قسوة من القضبان!
«محررة الوفد» لم تترك هذه اللحظة ناقصة، ولم تكتفِ برواية نصف القصة بل تعيشها، فجمعت شتات العمر المسروق وانتقلت بين ضفتى الوجع، وحاورت الأسير المحرر في غزة، واستعادت معه سنوات القهر خلف القضبان، واستمعت إلى كلماته التي تحمل وجع الأسر ومرارة الفراق؛ لم تكتفِ برصد الحكاية من جانب واحد بل واصلت طريقها إلى الجهة الأخرى من الغياب، واستمعت لنبض أسرته الذي لم يخفت رغم المسافات، ولشوقٍ ظل حيًّا رغم طول الانتظار.
عبر صفحات «الوفد»، نُعيد وصل ما انقطع، ونسمع صوت الأسير من هناك، وصدى الشوق من هنا، ونمنح الكلمات حقها في أن تكون جسرًا للقاء لم يكتمل بعد.

وإلى نص الحوار مع الأسير المحرر حسام الزعانين:

متى وأين تم اعتقالك؟ وما الظروف القاسية التي رافقت عملية الاعتقال؟

تم اعتقالي يوم 22 يوليو 2013، في معبر إيرز أثناء محاولتي السفر فى رحلة علاجية برفقة والدتي خارج قطاع غزة، وكان معي تقرير طبي معد بالكامل يشير إلى ضرورة السفر لتلقي العلاج، لكن شاءت الأقدار أن أُلقى في قبضة الاحتلال عند المعبر.
كانت ظروف الاعتقال قاسية جدًا؛ فقد تركت خلفي قسرًا بنتين صغيرتين «حلا وآية»، حينها كانت الأولى لم تتجاوز العام والنصف، والثانية تركتها رضيعة بعمر ثمانية أشهر، مؤلم أن يُحرم أب من بناته في أعوامهن الأولى، دون أن يعيش لحظات الأبوة معهن، ويشاهدهن يكبرن أمام عينه. 

حسام الزعانين
حسام الزعانين

كم كانت المدة التي تم الحكم عليك بها؟ وما التفاصيل التي أدت إلى تلك العقوبة؟

حكموا عليّ بالسجن 17 عامًا وثمانية أشهر. أما الثمانية أشهر فقد أضافوها لي لأنني رفضت الاعتذار لدولة الاحتلال، رغم أنني لم أرتكب أي جريمة تستدعي ذلك الاعتذار. هم يصفونني بالمخرب «المقاوم»، لكنني فى الحقيقة مدني عادي. ورفضي للاعتذار جعلهم يفرضون علي حكمًا أطول.

كيف كانت فترة التحقيقات؟ وهل تعرضت لضغوطات من قِبل المحققين؟

خضعت لتحقيقات قاسية لا تُوصف، تعرضت لانتهاكات جسدية ونفسية شديدة لم يكن من السهل تحملها. ضرب وإهانة وشتائم بذيئة لم تتوقف، وساوموني على إطلاق سراحي مقابل الاعتراف بجُرمٍ لم أرتكبه، ووصل بهم الأمر أنهم هددوني بقتل أسرتي خصوصًا أن ابنتي كانت تتلقى العلاج في إسرائيل وحالتها الصحية كانت حرجة للغاية. استخدم الاحتلال معاناتها هذه كأداة ضغط علي، حيث كانوا يلوّحون لى بشكل متكرر بأن حياتها ستكون مهددة إذا لم أعترف بالتهم الموجهة إليّ، تحت هذا الضغط الشديد أُجبرت على الاعتراف بجرائم لم أرتكبها.
الاحتلال عادةً ما ينتهج أسلوب التهديدات والابتزاز ضد الأسرى، حيث إنهم يهددونهم بقتل أحد أفراد عائلاتهم إذا لم يعترفوا أو لم يقدموا معلومات معينة.

حدّثنا عن مظاهر التعذيب التى تعرضت لها خلال فترة الأسر؟

كانوا يضربوننا كل يوم، ويُطلقون علينا الكلاب المسعورة تهاجمنا بلا هوادة، ويتعمدون إطلاق النار بالقرب منا؛ الطلقات تصوب نحونا من كل مكان بمثابة تهديد مباشر لحياتنا؛ أصوات الرصاص تملأ الأرجاء، فلا نعلم متى سنصاب، ولا متى سنموت.
كانوا يعذبوننا بأجهزة حديثة لا نعلم عنها شيئًا؛ منها جهاز الكهرباء الذي يُستخدم بشكل مروع. كنا لا نقوى على تحمل الصدمات الكهربائية، التي تشق طريقها عبر أجسادنا.

هل كنت على تواصل مع العالم الخارجي أثناء اعتقالك، سواء مع المحامين أو عبر زيارات الأهل؟

في الأسر، كانت المعلومات التي تصلنا عن الأحداث فى الخارج قليلة جدًا. كنا نتلقى بعض الأخبار بطريقة سرية عن الأحداث التي كانت تحدث، ولكنها غالبًا ما تكون مغلوطة أو ناقصة. وفي كثير من الأحيان، كانت إدارة السجون تمنع المحامين من التواصل معنا أو زيارتنا، ما يضاعف من عزلتنا عن العالم الخارجي. وبعد السابع من أكتوبر، تفاقمت هذه العزلة بشكل أكبر، حيث كنا نعيش في حالة من الفراغ التام عن أي معلومات تتعلق بما يحدث في غزة.
أما بالنسبة لزيارات الأهل، فقد كانت نادرة للغاية، حيث لم يُسمح لي إلا بـ6 زيارات فقط طوال 12 عامًا من الأسر، وكانت هذه الزيارات تتم بصعوبة بالغة، عبر تنسيق مع الصليب الأحمر، وكان الوقت المخصص لنا لا يتجاوز 45 دقيقة مليئة بالمرارة والاشتياق، وأصعب ما في الأمر أننا كنا نتحدث عبر حاجز من الزجاج والشبك، وفي آخر 3 سنوات حرموني من زيارتهم تمامًا.

هل تعرضت لإصابات أو أمراض أثناء فترة اعتقالك؟ وهل تلقيت أي نوع من الرعاية الطبية؟

نعم.. عانيت من إصابات خطيرة، تحديدًا في قدمي، وصدري، ويدي اليمنى، نتيجة للتعذيب والمعاملة القاسية التي تعرضت لها من قِبل الاحتلال. والأصعب أنني عانيت من فقدان البصر، ولكن بفضل الله ورعايته، تمكنت من استعادته بعد سلسلة من العمليات الجراحية. 
تلقيت رعاية طبية متأخرة جدًا، بعدما وصلت إلى مرحلة من الألم والتدهور الصحي الذي يصعب وصفه بالكلمات. 

ما أصعب لحظة مرت عليك خلال سنوات الاعتقال؟

أصعب لحظة مررت بها عندما خضعت لعملية جراحية في عيني الاثنتين ببداية جائحة كورونا، وكنت في حاجة ماسة للرعاية والراحة بعد هذه العمليات الدقيقة. للأسف، بدلًا من أن أجد العناية التي أحتاجها، تم عزلي في الحبس الانفرادي طيلة أشهر عدة ضاعفت من معاناتي.

هل واجهت حالات مشابهة من الإهمال الطبى لأسرى آخرين؟ وما أخطر الحالات التى شهدتها؟

نعم.. شهدت على معاناة العديد من أصدقائي؛ فمنهم من كانوا يموتون نتيجة الضرب المبرح والإهمال الطبي القاسي. كان لي صديق يعاني من مرض السرطان، تم إهمال علاجه بشكل تام. هذا الشخص كان يتعذب في صمت، حيث كان جسده ينهار من الألم بينما كانوا يواصلون تعذيبه الجسدي والنفسي بشكل غير إنساني حتى توفي.

حدّثنا عن تجربتك في الحبس الانفرادي؟ وكيف كنت تقضي وقتك بداخله؟

بدأت معاناتى فى الحبس الانفرادي بعد تلقى خبر استشهاد أخي الأصغر، أحمد محمد جمعة الزعانين، الذي اغتالته يد الاحتلال في عام 2014، بعد مرور ستة أشهر على اعتقالي. كان عمره لا يتجاوز 21 سنة حينها، في ريعان شبابه. ما زلت أذكر كيف عرضوا عليّ فيديو وثّق لحظة اغتياله، حيث استهدفوه بصاروخ أمام منزلنا. وكانوا قد هددوني بتلك الواقعة قبل حدوثها، قالوا لي: «هنجيبلك أخوك على الصارخ» وبالفعل نفذوا تهديدهم. وعندما شاهدت الفيديو، لم أتمالك نفسي من هول الصدمة، فانهارت أعصابي وأخذوني فورًا إلى الحبس الانفرادي.
وتم عزلي في الحبس الانفرادي منذ مايو الماضي، واستمر هذا الوضع حتى لحظة الإفراج عني، ومنذ ذلك الحين وأنا مغيب تمامًا عن الأحداث التي تُجرى فى الخارج. 
للأسف رغم قسوة الزنزانة كنت أُفضّل البقاء في تلك العزلة على أن أتعرض للضرب والإهانة اليومية. ورغم كل هذه المعاناة والألم كنت أتمسك بالأمل والاستغفار، والتقرب إلى الله.

صِف لنا ظروف السجن طوال فترة الأسر؟ وما أصعب المواقف وأبرز الانتهاكات بحق الأسرى؟

ظروف السجن كانت قاسية وغير إنسانية على الإطلاق. الزنازين ضيقة للغاية وتفتقر لأدنى معايير النظافة والراحة. 
معاملة السجانين كانت مليئة بالتنكيل والتعذيب النفسي والجسدي؛ كانوا يسبوننا ويشتموننا بشكل مستمر. وفي كثير من الأحيان، كانوا يربطون أيدينا في الكلبشات لفترات طويلة جدًا، مما يسبب لنا آلامًا شديدة، حتى قبل الإفراج عني، ربطوا يدي ورجلي  بالكلبشات لمدة أربعة أيام متواصلة.
كانوا أيضًا يرشونا بغازات البودرة والفلفل الحار والتي اُستشهد بسببها العديد من الأسرى. أما بالنسبة للنوم، فكانت الظروف أكثر من مأساوية؛ كانوا يسحبون منا الفرشات التي هي عبارة عن قطع رقيقة من الإسفنج، واللحاف الذي كان لا يتعدى حجم منشفة، من الساعة الخامسة صباحًا حتى 12 ليلًا. أما الطعام، فقد كان شحيحًا للغاية، لا يسد جوع طائر، وكان ذلك جزءًا من سياسة الإذلال والتجويع المتعمدة بحقنا.

ما اللحظات التى شعرت فيها أنك على حافة الانهيار خلال فترة الاعتقال؟

أصعب اللحظات التي مررت بها كانت في بداية السابع من أكتوبر، حيث تعرضنا لعزل قسري في زنزانات انفرادية، وسلبوا منا كل شيء. انتهكوا ممتلكاتنا الشخصية، حتى ملابسنا أخذوها منا في أيام البرد القارس. وكانوا في حال وقوع أي حدث أمني في فلسطين، سواء عملية فدائية أو تصرف من أي فلسطيني، يوجهون عقابًا جماعيًا للأسرى، ويعذبوننا بشكل انتقامي، فكنا ندفع ثمن ما ارتكبه الآخرون.
أتذكر جيدًا أنه في يوم السابع من أكتوبر كان التعذيب الجسدي والنفسي ضعف الأيام العادية. غير أننا قبل السابع من أكتوبر كنا نتمكن من أداء الصلاة بحرية، ولكن بعد هذا التاريخ أصبح حتى الدعاء محرمًا، وأصبحنا نصلي في الخفاء، خائفين من الضرب والتعذيب الذي قد يطالنا في أي لحظة.

كيف كان تفاعل الأسرى ودعمهم المتبادل فى مواجهة ظروف الاعتقال القاسية؟

كنا نزرع الأمل فى قلوب بعضنا البعض، ونُذكّر أنفسنا بأن الجنة هي دارنا، وأن هذه الدنيا مجرد محطة عابرة، فكلما اشتد بنا الألم، كنا نستمد القوة من إيماننا بأنها ليست سوى مرحلة مؤقتة.

كيف تلقيت خبر الإفراج عنك ضمن صفقة التبادل؟ صِف لنا مشاعرك فى تلك اللحظة؟

في البداية كنت لا أعلم شيئًا عن احتمالية الإفراج عني. أبلغوني فقط أنه سيتم نقلي من زنزانتي إلى أخرى، ثم قابلت عدة ضباط من المخابرات الإسرائيلية، أخبروني أنه سيتم الإفراج عني. ولكن، في لحظة مفاجئة، أضاف أحدهم تهديدًا مرعبًا، حيث قال لى «سنقتلك وجميع عائلتك المتبقية»، وألبسوني أسورتين قبل الإفراج عنى بخمس دقائق مكتوب عليهما «لن ننسى ولن نغفر» وهددوني بألا أحكي عن أي شيء حصل معي بالداخل.
أول شيء فعلته أنني سجدت شكرًا لله تعالى على نعمة الحرية التي منّ بها عليّ بعد 12 عامًا من الأسر.
كانت أول لحظات التحرر تجربة قاسية، مليئة بمشاعر متناقضة، اجتمع في قلبي الفرح والوجع معًا؛ لأنني لم أجد أمي وزوجتى وابنتي في استقبالي، أخبروني بأنهن اضطررن للهرب إلى مصر أثناء الحرب بحثًا عن الأمان.

هل كان العالم خارج السجن كما تخيلته؟ وهل واجهت تحديات في التكيف مع الحياة؟

لم أتوقع قط حجم الدمار والخراب الذي لحق بغزة، الصدمة كانت أكبر من أن أستوعبها؛ حزنت كثيرًا لفقدان أعز أصدقائى خارج السجن وبعض أفراد عائلتي، وعانيت بشدة بسبب هذا الخراب الذى اجتاح كل زاوية من مدينتي بيت حانون. لم أستطع العثور على بيتنا، فقد دمره القصف بالكامل، ولكنني مؤمن بأننا سنبني من جديد وسنُعمّر ما دمرته الحرب بإذن الله.
نعم.. واجهت تحديات صعبة حيث انتقلت إلى مركز إيواء، عانيت فيه كثيرًا، ثم توجهت إلى بيت أختي بحثًا عن الراحة والأمان.

ما رسالتك للأسرى الذين لا يزالون داخل السجون؟

صابروا فإن أجركم عظيم بإذن الله، والفرج قريب مهما طال الزمن، وتذكروا أن هذا السجن فترة اختبار وأن دارنا الحقيقية هي الجنة، حيث لا ظلم ولا ألم.

ماذا تقول لمن ساعد في الإفراج عنك ضمن صفقة التبادل؟

أتوجه بخالص الشكر والامتنان لكل من ساهم فى الإفراج عني، وأخص بالذكر الوسطاء المصريين وأجهزة المخابرات المصرية، وعلى رأسهم السيد عباس كامل، والرئيس عبدالفتاح السيسي، الذين كانت جهودهم المحورية سببًا في هذه اللحظة. كما أوجه نداءً عاجلًا للحكومة المصرية بأن تبذل كل جهد ممكن لتيسير لم شمل عائلتي، التي تعيش في مصر بينما أعيش هنا في غزة بسبب الظروف المحيطة بمعبر رفح.. آمل أن تسهم الحكومة المصرية في تسهيل اللقاءات بيننا.

لو طلبت منك تلخيص تجربتك في جملة واحدة، ماذا ستقول؟

كانت «تجربة موت»؛ لأن حياتنا بالسجن كانت محاطة بالموت من جميع الاتجاهات.


«الوفد» تحاور عائلة «الزعانين» الممزقة بين غزة والقاهرة


«الوفد» لم تترك القصة مبتورة كما أرادها الاحتلال بل أمسكت بأطرافها الممزقة، فبين غزة والقاهرة، بين صوت الأسير وصدى الانتظار، جمعت «الوفد» شتات الحكاية، ونسجت من وجع الفراق كلمات تعيد رسم المشهد كما هو: «حرية لم تكتمل، ولقاء مؤجل، ووطن لا تزال فيه المسافات أقسى من السجون».

فانتقلت محررة «الوفد» إلى منزل أسرة «حسام الزعانين» فى القاهرة، وطرقت الباب الذى فتح ألف مرة على أمل أن يكون الطارق هو العائد من الأسر، واستمعت لنبض الاشتياق فى حديث أمه وزوجته، ورأت فى أعين بناته حنيناً لم يطفئه الزمن.

محررة الوفد مع عائلة حسام الزعانين
محررة الوفد مع عائلة حسام الزعانين

حملت فى قلبها أوجاع الأرض كلها، أم لأسيرٍ ذاق قسوة السجون، وشهيد اختطفه صاروخ غادر، ومغترب أبعدته الحدود، اختبرت الحياة صبرها حتى آخر حدوده، إنها السيدة فريال الزعانين، والدة الأسير المحرر حسام الزعانين، التي تجاوزت السادسة والستين من عمرها وهي تحمل بين ضلوعها جراح الفقد ولوعة الانتظار. وحين تحدثنا معها، لم تكن الكلمات كافية للتعبير عن وجعها، فكانت الدموع تنطق حيث يعجز اللسان، وكانت الآهات تفصح عن قصة من أقسى حكايات الألم والحرمان.

فريال الزعانين - والدة حسام
فريال الزعانين - والدة حسام

«قالوا لي روّحي.. ابنك راح على غزة كذبوا عليّ».. بهذه الكلمات المشبعة بالوجع، استهلت «فريال الزعانين» حديثها لـ«الوفد»، مسترجعة تفاصيل اليوم الذي سُرق فيه ابنها من بين أحضانها، قائلة: «كنت ذاهبة مع ابني لتلقي العلاج في الشق الآخر من فلسطين، وعند وجودنا في معبر إيرز، تفاجأت بهم يأخذون ابني بالقوة، انتظرت عودته كثيرًا ولكنها طالت، وبعد فترة جاءني ضابط من المخابرات الإسرائيلية وقال لي: «ارجعي إلى غزة». سألته كيف أعود إلى غزة بدون ابني، فأجابني: «ابنك سبقك على غزة». خرّجوني من المعبر بالقوة دونه، حينها شعرت بالغدر، طرقت على الحديد بقوة، حتى الحقيبة أخذوها، وعدت إلى غزة وحدي ولم أجده هناك، كذبوا علي الاحتلال!
وتابعت بحسرة: «تلقيت اتصالًا من الصليب الأحمر ليخبرني أنه تم اعتقال ابني واقتياده إلى سجن عسقلان، تلقيت الخبر بصدمة كبيرة وحزن عميق. كأن الزمن توقف فى تلك اللحظة لم أستوعب كل ما حدث، خُفت على مصيره، لم يكن بيدي أي شيء سوى الدعاء له بالسلامة وانتظار عودته.. وبالفعل انتظرت وصبرت وتعلمت الصبر من غزة التي لا تكسرها المحن، سرق الانتظار عمري كله، من انتظار المغترب فلم أره منذ تسع سنوات، ومن فراق ابني «حسام» الأسير الذي قضى اثني عشر عامًل خلف القضبان، ومن نزيف روحي على ابنى الشهيد «أحمد» الذي خطفه صاروخ غادر أمام باب البيت عند منتصف الليل، جثمانه ارتمى علينا داخل البيت، ودمه تناثر على السقف، واكتست الجدران بأشلائه، لم يبق منه سوى الذكرى والألم».
وأضافت الأم المكلومة: «الحرب مزّقتنا، فرقتنا عن بعضنا، غزة الجميلة، تركناها قسرًا تحت وقع الحرب، غادرناها وقلوبنا معلقة بها، ولن تغيب عن أذهاننا، فإلى غزة العائدة سنمضي، نحن أصحاب الأرض، نحن أهل بيت حانون، وعائلتنا، الزعانين، من أكبر عائلات غزة، كانت تملك أراضي لا تحصى، مزروعة بالحمضيات والفاكهة والورود، نحن أبناء المختار «العمدة». «لا للتهجير» قُلناها وقالها الشعب المصرى وكل الشعوب الحرة، إن سمح العالم بتهجير غزة، فسيكون ذلك سابقة تمتد إلى كل الدول العربية، وكأن الأوطان لم تعد إلا محطات انتظار، وكأن التاريخ يُعاد كتابته بيد المحتل، لكننا هنا، باقون، ولن نرحل».
سردت «فريال الزعانين» تفاصيل رحلة الانتقال القاسية من غزة إلى القاهرة تحت وطأة حرب لا ترحم قائلة: «أنهكتنا الحرب وعانينا من احتلال لا يكتفي بسرقة الأرض، بل ينهب الأرواح، ويسرق البيوت والذهب وأموال التجار، حتى ملابس الأطفال وملابس النساء لم تسلم من أيديهم، وكأنهم مافيا تحترف النهب والتدمير، خرجنا قبل أن يتحول كل شيء إلى رماد، خرجنا من بيت حانون إلى غزة، بقينا واحدًا وعشرين يومًا، ثم قُصف المكان بأحزمة نارية والله سلّمنا، النار والقصف كله فات علينا وكان الموت يلاحقنا خطوة بخطوة، لكن الله كتب لنا النجاة. في اليوم التالي، لم يكن أمامنا سوى النزوح جنوبًا، إلى رفح ثم خان يونس، لكن من اقترب من الحاجز ذاق مرارة الذل والانتهاك».
وأضافت: «فرحت بتحرر ابني بعدما عشنا دونه أيامًا صعبة، وأعيادًا بلا فرحة، لكن فرحتي منقوصة، فبقدر ما انتظرنا اليوم الذي يخرج فيه من السجن، بقدر ما نتألم لأننا في بلد وهو في بلد آخر، نحن في مصر وهو في غزة، لا أستطيع أن أحتضنه كما كنت أتمنى، أسأل الله أن يلم شملنا، وأوجه ندائي إلى السلطات المصرية والجهات المعنية، أن تنظر إلى قلب أم انفطر فؤادها على فراق فلذة كبدها طوال 12 عامًا، وعندما اقترب اللقاء، جاء متأثرًا بحزن الفراق. أرجو منكم بذل المزيد من الجهد لتسريع إجراءات اللقاء بابني، فإن في قلوبنا شوقٌ لا يُوصف».

 


ووجهت والدة حسام الزعانين رسالة لأمهات الأسرى قائلة: «أنتن بطلات حقيقيات، أنتن رمز للتضحية والأمل في أصعب الأوقات، أعلم جيدًا أن الانتظار طويل وشاق، لكن عزيمتكن أقوى.. لا تيأسوا، فالأبناء سيعودون والأجر عظيم».. واختتمت حديثها برسالة لنجلها «حسام» بعدما اكتسى وجهها بغيمات دموع قائلة: «رغم البعد والمسافة بيننا، إلا أن قلبي لا يعرف سوى القرب منك في كل لحظة. أنت في دعواتى دائمًا، رغم صعوبة الظروف أثق أنك ستتغلب على كل شيء، وإن كنت بعيدًا عني في الجسد، فأنت أقرب إليّ من أى وقت مضى».

 

محررة الوفد مع زوجة حسام الزعانين
محررة الوفد مع زوجة حسام الزعانين

حملت وحدها ثقل الغياب، وقفت كجدار صامد في وجه سنوات الأسر، رممت وحدتها بصبر لا ينهار، واجهت وحدها فراغ البيت وصمت الجدران، فكانت الأم حين غاب الأب، وكانت القوة حين هدّها الضعف، أخفت وجعها خلف ابتسامة واهنة كي لا تضعف أمام بناتها، ولكن قلبها بركان تنصهر فيه الآلام والآمال.. إنها شيرين الزعانين، زوجة الأسير المحرر حسام الزعانين.
تحدثت شيرين الزعانين 38 عامًا - خريجة كلية التربية قسم علم نفس وإرشاد - لـ«الوفد» قائلة: «عِشت مع حسام عامين ونصف فقط، أنجبت البنتين واحدة تلو الأخرى، ثم اختطفه الاعتقال من بيننا، كانت صدمة بحجم السماء، كان حسام يحمل عني كل الأعباء، استيقظت ذات ليلة على صوت طرقات عنيفة على الباب، فتحت فوجدت إخوته وعائلته متجمعين، سألتهم: «مالكم! حسام انحبس أخدوه اليهود؟ قليى شعر به، قبلها كنت نائمة وأغمضت عيني لغفوة ثم صحت فجأة وناديت باسمه، قالوا لي: «سيخرج»، صرخت على حماتي «ليش عُدتى بدونه؟ ليش تركتيه؟» وفجأة لم أسمع صوت أحد، فقد أغمى علي، ولم أستوعب ما حدث إلا بعد شهور، كان شقيقه أحمد من يهون علي، كان متعلقًا بالبنتين وخصوصًا آية، وقف معنا في أصعب لحظات حياتها، حين عانت من تضخم بالكبد، ولم يكن علاجها متاحًا في غزة، فاضطررنا للتنقل بها بين مستشفيى المقاصد بغزة وتل هاشومير الإسرائيلي، ولكن اغتالته يد الاحتلال بعد ستة أشهر فقط من اعتقال حسام».
بصوت أثقله الحنين أفصحت «شيرين الزعانين» عن معركة خاضتها وحدها قائلة: «تربية البنات كانت رحلة شاقة وطويلة، بين الحرب والاعتقال والنزوح. حلا كانت سنة ونصف، وآية ثمانية شهور، حينها اضطررت أن أكون الأم والأب في آن واحد. والدة زوجي هي أكثر من ساندني منذ لحظة اعتقال حسام حتى الآن، لكن مهما كان العون، كانت المسؤولية أكبر من أن تُحتمل، واجهت عقبات كثيرة ومواقف حرجة أكثر، في كل عيد ميلاد لأطفال العائلة، كانت حلا تنظر بحسرة، «هذه معها أبوها، وتلك معها أبوها»، فكانت تسألني «فينه بابا»، فلم أجد ردًا يثلج قلبها، وحين كانت تُعقد اجتماعات أولياء الأمور في المدرسة، وتحضر البنات برفقة آبائهن كانت تسألني: «لماذا أبي ليس معي؟»، فأُجيبها: «أنا هنا مكانه»، لكنها لم تكن تستوعب لصغر سنها، حتى جاءت الحرب، فبدأت تفهم معنى الغياب. كانت تتحسس من كل موقف ترى فيه أبًا يحتضن طفلته، أو عمًا يُدلل ابنته، كنت أشعر بوجعها الصامت، وبحزنها الذي لا يقال».
وأضافت: «في أول زيارة لي لحسام طلبت منه أن يستغل حبسته الطويلة في إكمال تعليمه، وأصريت على ذلك، وبالفعل أنهى حسام دراسته الجامعية داخل السجن، بعدما دخله أسيرًا وهو لا يحمل إلا شهادة رابعة ابتدائي، لكنه حوّل سنوات أسره إلى رحلة علم، فالزمن في المعتقل ليس مجرد وقت يمضي، بل فرصة للبقاء. درس التربية قسم خدمة اجتماعية، وهناك، في ذلك العالم المغلق، كان السجن أشبه بدولة داخل الدولة، فيه علماء وأدباء وأطباء، وحتى من حصلوا على شهادات الدكتوراه. حقًا كما وصفوه بـ«مقبرة الأحياء»، لكنه أيضًا مدرسة الإرادة. أشرف على تعليم حسام أسرى أكبر سنًا وأكثر خبرة، كانوا يُنظّمون المحاضرات ويقيمون الامتحانات، تارة يُحقق درجات عالية وتارة أخرى ينال درجات متواضعة، ولكن عزيمته كانت أقوى من كل عثرة، رغم أن إدخال الكتب كان معركة بحد ذاتها، فقبل السابع من أكتوبر كانت الكتب تصل بصعوبة، ومُنعت تمامًا بعد ذلك التاريخ».
وفيما يتعلق بالزيارات، أشارت «شيرين»: «كان أمر الزيارات قصة أخرى من الألم، لم تكن مجرد لقاء عابر، بل معركة مع التصاريح والرفض الأمني والتعنت بحجج واهية. كنا نخرج من الرابعة فجرًا ونقطع ست ساعات سفر، نجهز كل شيء، ونخضع للتفتيشات المذلة، نركب الحافلات تحت رحمة الجنود، ثم يأتي أحدهم ليقول بكل برود: «عودوا إلى غزة، لا زيارة لكم اليوم»، وكأنهم يستمتعون بالعبث بمشاعرنا، وكسر قلوب أطفال ينتظرون عناق أبيهم، كانوا يمنحوننا التصريح ثم يلغونه عند بوابة المعبر، ليستفزوننا بكل قسوة، هدفهم تحطيم مشاعرنا وإرهاق أعصابنا، وحين نحظى بفرصة الزيارة، نصل السجن بعد رحلة شاقة تمتد لساعات، فقط لنراه من خلف زجاج عازل، دون أن نسمع صوته، نبقى نصف ساعة نصرخ كي نلتقط كلماته، بينما هم يتلذذون بحرماننا حتى من سماع صوته بوضوح. في القاعة، شاشة كبيرة ولافتات تحمل عبارة تحذيرية: «المحادثة مسجلة، ممنوع الحديث عن المقاومة أو السياسة»، لكننا لم نكن نريد شيئًا سوى الاطمئنان عليه، فقط أن نراه ونتأكد أنه لا يزال يقاوم الحياة خلف القضبان، كانت كل أمنيتى رؤية ملامحه عن قُرب أو حتى صورة برفقته تهون عليّ مرارة الأيام لكنهم منحوا الزوجات فرصة التصوير مع أزواجهم مرة واحدة وللأسف بتلك المرة كُنت ممنوعة من الزيارة أمنيًّا، فقد منُّوا علينا بالتقاط صورة مع والدته وبتصريح».
وأكملت: «وبالنسبة للتفتيش داخل السجن فقد كان إذلالًا من نوع آخر، لا يسمح لنا بارتداء أى شيء يحتوى على قطعة حديد، لا حلق، لا مشبك شعر، حتى الصغيرة حلا أجبروها على خلع ملابسها وألبسوها ثوب الصلاة فقط لأن بنطالها لم يمر عبر أجهزة الفحص. حتى العناق، ذلك الدفء الوحيد الذي يمكن أن يمنح السجين بعض القوة، كان مسموحًا فقط للأطفال حتى سن الخامسة، في آخر دقائق الزيارة، ثم ينتزعون من أحضان آبائهم وكأنهم يحرمونهم حتى من أبسط الحقوق الإنسانية».
واستطردت زوجة الأسير المحرر: «تنقل حسام بين سجون عدة: عسقلان، ثم نفحة، ثم النقب، ثم عاد إلى نفحة مجددًا، وكل سجن كانت له قسوته الخاصة. حرمونا من زيارته وانقطعت عننا أخباره، وحين علمنا بخبر خروجه، وأرسلوا لي صورته، لم أصدق أنه هو، أقسمت لهم أنه شخص آخر، لم أتوقع أن يكون بهذا الشكل، بالوجه الشاحب والجسد الهزيل. كان وزنه 55 كيلو فقط، أشبه بهيكل عظمي. علمت أنهم كانوا يعيشون على قطعة توست فقط، ويتحممون مرة واحدة في الشهر، ينامون على سرير حديدي، وفرشة واحدة يتقاسمونها نصفًا تحتهم ونصفًا فوقهم، وقبل إطلاق سراحه عانى حسام أربعة أيام بلا طعام ولا شراب، مقيد اليدين والرجلين حتى لحظة الإفراج عنه عند الثانية ظهرًا. وألبسه الاحتلال إسورة «لن ننسى ولن نغفر».. الدنيا صارت بالمعكوس!».
«حلا وآية حسام» في ريعان الصبا، 14 و13 عامًا، تحدثتا لـ«الوفد» بصوت يجمع بين براءة العمر ووجع الفقد، حينما سُئِلتا عن أبيهما نطقتا اسمه وكأنهما تلفظان الحلم الذي لم يكتمل، كانت الصغيرة تردد «بابا» بتلعثم، وكأنها تختبر وقع الكلمة التي لم تألفها ذراعاها، بينما الكبرى ترسمه في خيالها فارسًا يأتي ليعوضها عن كل لحظة انتظار. 
«بابا.. متى سأراك؟ أودُّ لو أُعانقك عمري كله».. بهذه الكلمات عبّرت «حلا» عن شوقها لأبيها وهي تنظر إلى صورته كأنه جسر يعبر بها إليه رغم المسافات قائلة: «أشتاق لأبي كثيرًا وأحلم به كل يوم، أريد أن أكتب اسمي بيدي على كفه، أريد أن أناديه وأسمعه يرد عليّ، لا أن أكتفي بذكره في الدعاء كل ليلة وأنا أنظر للسماء، سعدت جدًا بخبر تحرره وودتُ لو أركض إليه ويفتح لي ذراعيه وأجري نحوه دون خوف، سرقه الأسر منا واليوم سرقته المسافات، ما زلنا ننتظره بشغف، ونحلم بلحظة لقائه لم نتمكن من أن نعيش مثل باقي الأطفال مع والدهم، ولكن أسأل الله أن يجمعنا به قريبًا، وأن نعيش بجواره بقية العمر ونعوض معه سنوات الفقد، ما طلبت شيئًا سوى أن يكون هنا، أن أفتح عيني يومًا وأراه أمامي، بلا مسافات، بلا ألم، بلا فراق».
بينما التقطت «آية» أطراف الحديث قائلة: «كنت أسأل نفسي كل يوم كيف يكون يوم ميلادي وأنت بجانبي؟ لم أذق هذا الشعور يومًا، دائمًا ما يأتي يوم ميلادي دونه، أفتقده في كل اللحظات، أفتقد لمساته الحنونة، لا أريد سوى يده تمسح على رأسي، تنميت أن يأتي المساء ويحكي لي حكاية قبل النوم، كنت كل ليلة أنظر للسماء وأتخيل أنه ينظر إليها من بعيد.. فأتساءل متى سننظر إليها معًا، تحت ذات السقف؟.. أكثر لحظة آلمتني حين طالعت صورة والدي بعد التحرر، لم أعرفه من شدة تغير ملامحه، فقد طالت لحيته وشعره، وكأن الزمن صنع فجوة بين ماضيه وحاضره نودُّ لو لم تمد تلك الفجوة كثيراً وأن نتلقى بأبينا ونعيش معه لحظة واحدة بلا انتظار، بلا رسائل، بلا مسافات تفصلنا عنه».


هذا ليس مجرد حوار، بل شهادة على ظلم لا ينتهي… شهادة على أن الحرية حين تأتى منقوصة، تكون جرحًا جديدًا لا يندمل.