رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

الأديبة التونسية كوثر بلعابي تكتب .. إنشائيّة البلاغ المبين في " وصايا " أشرف كمال

كوثر بلعابي و أشرف
كوثر بلعابي و أشرف كمال

أصدرت الأديبة والشاعرة الكاتبة التونسية كوثر بلعابي دراسة نقدية في ، (( من وصاياها ) للأديب والصحفي أشرف كمال مدير مكتب جريدة الوفد بالمنيا ، وعضو نقابة الصحفيين (منتسبين ) ، جاء فيها .

 

للوصيّة عامّة معنيان :  فهي إقرار عن طواعية يكون شفويّا أو مكتوبا بتوريث ممتلكات ماديّة او غير ماديّة من قِبلِ شخص  لبعض ذويه أو أخلافه.. وهي ايضا القول البليغ المؤثّر الذي يحثّ على السلوك الإيجابي النّافع حُبّا في مَن تُوَجَّه إليه الوصيّة و رغبة في إعلاء شأنه و جلب الخير له.. و الوصية في معناها الرّسميّ عريقة في ثقافتنا العربية.. لها جذور في الديانات السماوية .

 

(( الوصايا العشر في التّوراة التي تلخّص مجمل تشريعات الدّيانة اليهوديّة : " سفر الخروج " و التي لها ما يرادفها من المبادئ العامّة في التّشريع الإسلامي الواردة في القرآن الكريم : "سورة الأنعام" )) و لها جذور ايضا في الأدب القديم ((وصايا الخلفاء إلى أولياء العهد _ وصايا علي بن أبي طالب إلى أتباعه و قد جُمِعت في كتاب نهج البلاغة _ وصايا سهل بن هارون التي أوردها الجاحظ في كتاب البخلاء _المقامة الوصية لبديع الزمان الهمذاني... )) .

 

و مهما كان تنوّع الدّلالات و مهما كثرت الوصايا في موروثنا الثقافي فإنها تقوم جميعا على ثنائية التّوريث و التّرشيد بواسطة خطاب مباشر بين طرفين موجّه لغاية او هدف غالبا ما يكون لفائدة المُوصَى له .. و وصايا الأديب و الصحفي * أشرف كمال* تنهل من هذا المَعين ضاربة في عمق الأصالة  ممتدّة إلى مقتضيات العصر الحديث الذي افرزها فجاءت في نسيج فنّيّ محكم التّقاطع مع الرّسالة من جهة و مع الخاطرة و القصيدة من جهة ثانية سواء في بناء خطابها و في طرق توظيف لغتها و ابتكارات تعبيرها أو في مضامينها القيميّة السّامية.. 

 

فعلى مستوى بناء الخطاب :

  اعتمد المؤلف الخيال في تَمثُّلِ مرايا الذّات المتنصّلة من ذاتها لتواجهها عبر استحضار ال "هي" التي وقعت نسبة الوصايا لها.. أنثى الحكمة و مَعين المعنى تدرّ على أشرف بكمّ من الحكم و النصائح النّاجمة عن تأملات عميقة و تجارب عريقة ضمن خطاب محوره النداء الملحّ (( يا أشرف)) الذي يفيد الإستقطاب و لَفت انتباه المتلقّي بما أنّ المؤلّف تقمّص في مراوغة ذكيّة دَوْرَ التّلقّي في الخطاب حتى لكأنّه المُوصِي و المُوصَى له في ذات الآن و هو يتوجه بالوصايا لنفسه و للآخرِ مُطلَقًا غيرَ محدَّدٍ متحصّنا  بالحِياد و الموضوعيّة فكان الكلام بذلك مُرسَلا من أشرف الأديب المثقل بتجارب الحياة التي انضجته  و المتشبّع بالحكمة إلى أشرف المتعلّم من الحياة كوسيط او ممثّل لبني جلدته يستوعب معهم الدّرس أو بالأحرى الرّسالة الملتبسة بوصيّة الأنثى الأمّ/ الولادة او الأنثى الحبيبة/ السعادة  و كلتاهما بهذا المعنى اكسير الحياة (( من وصاياها.... هي أمّك؟ هي حبيبتك؟ ملهمتك؟ هي امرأة خارقة؟.. )) 

 

و قد ادّت ذلك كما يَحسُنُ الأداء صياغةٌ تعليميّةٌ في منتهى الدّقّة البيداغوجية الموجّهة للوعي و الشّعور كليهما نحو ما يستطاع به ان يكون الإنسان إنسانا حقيقيا يحب بمشاعر سليمة و صحيّة  و يفكّر وفق مبادئ نبيلة و صحيحة .. فأجاد توظيف التقرير المطلق في مواضع التّلقين و التّفسير (( الشّكّ خنجر صدئ يا أشرف يطمس الحُبِّ و يشوّه الأغنيات)).. و أجاد استخدام الأمر و النهي في مواطن إسداء النّصيحة المباشرة الحافظة للسّلامة (( لا تفكّر في إسعاد غيرك يا أشرف.. فكّر فقط في عدم إيذائهم...)) و أجاد التّوسّل بالأسلوب الحكمي في مواضع التّأمّل  حجاجا (( البقاء غريزة حارّة يا أشرف و الرّحيل انسحاب جبان يتوكّأ عليه الأشقياء)) او استدلالا عبر تراكيب الشرط  (( إذا شاءت أقدارك ان تودّع حبيبة لا تنظر في عينيها   عيناها تشقّقات أرض عطشى...)) هكذا كان خطاب الوصايا تناسُبا مدمجا بين الخاطرة و الرّسالة كتبته لغة الشعر الموغلة في التعبير الجمالي كما سأبيّنه في :

 

مستوي توظيف اللغة و إمكانات التعبير الجمالي :

لقد كتب أشرف كمال وصاياها بلغة لا تماثل سياقاتها المعجمية جاعلا العدول عن أصل المعجم وسيلته الأساسية في بلوغ مرتبة الجمالية الإبداعية في كتابته متعاملا مع اللغة على اساس العدول البلاغي حينا الذي يظهر خاصّة في استخدامه للتشبيه البليغ أسلوبا تعبيريّا أساسيّا في تحقيق الإيحاءات الطّريفة المراوغة بالمعنى و كذلك التشبيه المرسل و المجاز و الاستعارة (( الليل خفقة عطر الذكريات _تشبيه بليغ _يتدفق مع خيوط السّهر _ استعارة مكنيّة _ كوجع قديم _ تشبيه مرسل _)) فضلا عن التوظيفات الطّريفة للمجاز و المحسّنات البديعيّة (( الأرواح خدوش دامية نعالجها بالنسيان و تهلكنا بالتّذكّر _ تداخل بين المجاز و المقابلة _)) و على أساس العدول السّياقي حينا آخر الذي يظهر في الخروج بالكلمات عن معانيها الأصلية إلى معان سياقيّة مخالفة للمعتاد الأديب هو الذي يحدّدها بوضعها في ترصيفات لغوية محققة لدرجة اوفي من جمالية الإيحاء (( قلوبنا مدرّبة على الغربة لا تعرف كيف تبدّل جلودها و إن أعياها البلاء)) فاختزال الكائن البشري في قلبه فقط من خلال هذه الصّورة و إسناد  أفعاله (مدرّبة) و لوازمه (جلودها) إلى القلب تجعل الصّورة ملامسة للخواطر محرّكة للخوالج عالقة في الذّهن و الوجدان ممّا طعّم الوصايا هذا البلاغَ المُرسلَ بشعريّة في منتهى البلاغة فكانت شعريّة البلاغ المِبين جليّة تتّضح معالمها أكثر في : 

 

مستوى مضامين الوصايا : 

فقد جات هذه الوصايا محمّلة بأنبل القيم و موضّحة لأصول العيش القويم في حياة الفرد و المجموعة فبدت خلاصة تجربة عميقة في الحياة فيها كثير من العثرات و قليل من النّجاحات لما نلمسه في ثنايا المحتوى من مسحة حزن و شجن.. هي وصايا لا تخلو من صوفية موغلة في التجريد (( لا تهرب من الليل يا أشرف لا و لا منه اللّيل سفر الغريب تتوه به الثّنايا كلّما أوهنته الخطى بالوصول))  و وجوديّة مؤمنة بالإنسان الأمثل (( جراحات الرّوح مفزعة حقّا يا أشرف و رفع الأذى عنها فضل باذخ و صنوبرة وارفة تظلل القلب بالفرح)) و رومنسية حالمة  فائقة النّبل في التنظير للشّعر الذي ينفع الناس و يرتقي بهم و يزرع المودّة و الرّحمة بينهم  (( الشّعراء أطفال يدّخرون هشاشة الأيّام ليعالجوا جروح العاشقين..... عيون امرأة غاضبة جوع لا يدركه إلا الشعراء)) .

 

و في التنظير لترشيد الحبّ و الترفّع به عن الغرائز و الرذائل (( الحبّ اجتماع كلّ ضدّ بضدّه يا أشرف و عناق سخيّ بين الحياة و الموت...... غيرة المرأة حبّ يا أشرف حبّ وديع ...)) و في التنظير لعشق الأوطان و الإعتزاز بها اعتزازا يدفعنا إلى الاستماتة في البِرّ بها و التوجّع لانتكاسها و الانتصار لسلامتها (( الأوطان أوجاع على هيئة أنغام حزينة مواويل و أهازيج مكتومة... أوطاننا اليوم أغمار خيبة... أوطاننا الكلمة التي تحاول أن تقول المعنى فتغصّ بالعدم.. )) بإختصار إنها وصايا تعلّمنا كيف نعيش الحياة القويمة نسعد فيها ببعصنا بعضا مع بعضنا بعضا و دون أن نسبّب المعاناة و المآسي لبعضنا بعضا.. إنها كما قال موصيها مختفيا وراء لسان أمّه الحياة أو حبيبته (( وصايا كثيرة في الحب في الصبر في الشّوق في الخيانة في الشّعر....... وصايا قلب دافئ عامر بالحب و العطاء)) تذكّرنا بوصايا أحمد أمين في كتاب " إلى ولدي "

 

كم يحتاج إنسان هذا العصر و الأجيال اللّاحقة له الى مثل هذه الوصايا لا ليتعلّم كيف يعيش و يحلم و يحب و يحسن إلى نفسه و غيره و وطنه فقط.. بل ليتعلّم ايضا كيف يكون مفيدا في مجتمعه قدوة لغيره و خاصّة إذا كان أديبا أو مثقّفا إذ ليتعلّم  كيف يطوّع اللغة لتكون علاجا للنفس و العقل فتكون القصائد في أيدي المبدعين رسائل  سلام صالحة لتقويم ما اعوجّ من قيم الإنسان على مدى  الأجيال.. و كم يحتاج أخلافنا إلى ميراث من هذا النّوع يرفع من شأنهم و يوجّههم إلى ما ينفعهم.. فهل يكون لهذا اللّون الأدبي الوزن الذي يستحقّ في مستقبل الكتابة عندنا؟؟ 

 

                            بقلم الأديبة التونسية كوثر بلعابي