عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

الإيمان بالتصنيع المحلى وقدرة المواطن المصرى.. بداية الطريق إلى التقدم

السيارات المستوردة مليئة بالسلبيات.. وأمامنا سوق مفتوح للتصدير فى إفريقيا

سياسة الاستيراد.. أحد أسباب الكوارث الاقتصادية

 

الإدارة علم وخبرة وموهبة.. وخلق الاستراتيجيات والسياسات الناجحة يأتى من القدرة على اختيار القيادات ومن الرؤية القادرة على دفع هذه الاستراتيجيات لتتحقق.. هذه الرؤية يجب أن تكون جزءا فعالا واضافة مكملة الى استراتيجيات الدولة.. تلك هى الأسس فى بناء استراتيجيات الصحة والسكان لمصر حينما توليت مسئولية ذلك.. فمثلا لا يمكن فصل ما تقوم به فى الصحة والسكان عن المشاكل القومية مثل البطالة والمشاكل الاقتصادية ونقص العملة الصعبة وضعف الإنتاجية فى مصر.. ومن هنا يأتى التأثير الإيجابى لما يمكن أن تقوم به الحكومة تجاه المشاكل القومية.. وحديثى اليوم عن الإسعاف والطوارئ وكيفية خلق الدور الإيجابى فى تشجيع التصنيع المحلى وتوفير العملة الصعبة.. وأيضا تنمية الصادرات وخلق فرص عمل.. والدولة عليها تبنى هذا الفكر وإنمائه فى داخل مؤسساتها واختيار القيادات القادرة على تنمية هذا الدور.. الذى دفعنى لكتابة ذلك هو ما نشرته وسائل الاعلام عن نية استيراد 250 سيارة اسعاف جديدة وتمنيت ان يكون هناك توجه جديد لتشجيع التصنيع المحلى لهذه السيارات وإلا يكون الشراء بنفس الفكر الذى تم به شراء عربات الإسعاف فى الماضى.. حيث تم شراء ما يزيد على ألفي سيارة اسعاف مسبقا، ولا يخفى أن قيمة هذه السيارات كانت كافية لإنشاء مصنعين أو ثلاثة مصانع للسيارات على أرض مصر يكون هدفها ليس تغطية السوق المحلى فقط ولكن التصدير خارجه، وخاصة إذا قامت الحكومة بوضع قواعد تجعل هذه المصانع فى المناطق المحرومة التى تزداد فيها البطالة.. ويمكن مع الاستعانة بالخبرات والعقول المصرية النابهة أن تصبح السيارات المحلية أكثر جودة وأعلى كفاءة فى التصميم والتشغيل والملاءمة لمصر وبحيث نقوم بتلافى السلبيات فى السيارات المستوردة والتى ظهرت بوضوح فى ضيق هذه السيارات وعدم قدرتها على نقل مريضين فى نفس الوقت كما هو المعتاد فى السيارات الأخرى المستوردة من قبل أو المصنعة محليا، ويعد ذلك مطلباً حيوياً فى حالة الكوارث أو الحوادث الكبرى لا قدر الله.. بل بلغ من ضيق هذه السيارات التى تم استيرادها انها لا تعطى مساحة لحرية حركة المسعف حول المصاب.. وأضيف إلى ذلك ان التصنيع فى مصر قد يضيف مواصفات فنية أخرى تهمنا مثل توفير الطاقة أو استخدام الكهرباء، وأخيرا فإن مثل هذه السيارات بالتأكيد سيكون لها سوق فى افريقيا والدول العربية مما لها من مميزات سعرية.

إننى اكتب من خبرة تعلمناها عندما كنت وزيرا للصحة.. وفى وقتى لم تكن هناك موارد سهلة متاحة.. ولم يتح لنا الشراء بالأمر المباشر بالمليارات.. كنا نتفهم الصعوبات الاقتصادية، ونحاول المضى فى التطوير فى كل الاتجاهات دون الاستسلام لقلة الموارد والإمكانات، فإذا تعثرت الخطة ألف انتقلنا الى الخطة باء مع السعى الحثيث فى توفير المساعدات والمعونات من الداخل والخارج، فالتمويل الحكومى كان محدودا، وكانت فلسفة العمل واضحة فى الأذهان بأننا لابد من تشجيع التصنيع المحلى للسيارات فهو انقاذ لمواردنا وسد ثغرة كبرى فى خدمة الاسعاف.. وأنا لا أريد فى الدخول فى تفاصيل بعض سيارات الاسعاف الامريكية التى يفوق سعرها نصف مليون جنيه أو العيادات المتنقلة القليلة التى كانت من المعونات والتى كان ثمنها ما يقرب من مليون جنيه آنذاك..

كانت رسالتنا ان نشجع كل من أراد الدخول فى هذا المجال للتصنيع والتجهيز بمراعاة مقننات المواصفات وأصول الصناعة، بل وشجعت تصنيع الأجهزة الطبية، وأجهزة الغسيل الكلوي، والتأثيث الطبى للمستشفيات والوحدات من أسرّة وغيرها، وحصلنا على منتج محلى بقيمة ثلث أو ربع ثمن المستورد.. نحن أدخلنا المواصفات القياسية فى مصر وقام رؤساء الجامعات من جامعتى عين شمس وحلوان بترشيح الخبراء المصريين من أساتذة الجامعات لوضع المواصفات الفنية للخدمة المطلوبة طبقا للمواصفات العالمية، علما بأن هذه السيارات تستورد فى طورها الأول وهى متضمنة الأساسيات التى تشملها عربة الإسعاف أو العيادات المتنقلة المؤهِلة لنوع الخدمة.. وكانت هناك مراحل ثلاث: مرحلة كراسة الشروط والمواصفات والبت من خلال مناقصة عامة.. مرة أخرى «مناقصة عامة».. ثم مرحلة التصنيع ولها فريق رقابى متخصص للتفتيش أثناء التصنيع.. ثم مرحلة التسليم ولها لجانها المتخصصة..

وكان ثمن عربة الإسعاف المصنعة فى مصر حينذاك 78.5 ألف جنيه مصريا.. وثمن سيارة الإسعاف المكيفة والمجهزة للرعاية المركزة 114 ألف جنيه.. وثمن عربة العيادة المتنقلة التى تجوب المناطق النائية والنجوع 230 ألف جنيه.. وتعد هذه الأسعار خيالية حتى فى ذلك الوقت إذا ما قورنت بأسعار المستورد منها.. وأبدع المصنعون المصريون سواء فى القطاع الخاص أو الهيئة العربية للتصنيع وكان يرأسها آنذاك الفريق صلاح الحلبى.. وكان جزء من رسالتى هو تسويق هذا الإنتاج فى البلاد العربية والإفريقية وتستغرب أن حققت مصر خطوات مبشرة فى سياسات التصدير.

التصنيع المصرى هو الطريق الوحيد لخلق صناعات رائدة وقوة إنتاجية وقدرات تصديرية وهو العمالة بدلا من البطالة.. وأضف الى ذلك أن هذه السيارات كانت تأتى من الخارج بضمان سنة واحدة وهو ما زال الشيء المعمول به مع المستورد.. ولكننا طلبنا فى بادئ الأمر للتصنيع المحلى إعطاءنا ثلاث سنوات زدناها الى خمس سنوات ضمان للسيارة، وفعلا وافق المنتجون، وعند عطل السيارة كان المنتج يتولى إصلاحها..

وشجعنا الإنتاج المصرى بل وفتحنا له أسواقا بالخارج خلال رحلاتى الانسانية والفريق الطبى الى افريقيا وبعض البلاد العربية، وأصبحنا نصدر سيارات الإسعاف ونصدر الأثاث الطبى والأجهزة الطبية وطاولات العمليات والكشافات وغيرها، كما توسع التصنيع الدوائى وتصديره، لكن بقدرة قادر اكتشفت الحكومة أن المستورد أحسن.. لم يناقش أحد ما وفرته الدولة حينذاك.. ولم يعبأ أحد أيضا لفكرة فتح مصانع مصرية وخلق فرص عمل لتقليل البطالة فى مصر.. ولم يصفق أحد للإنتاج المصري.. بل وجدنا الإنتاج المصرى فى قفص الاتهام بفضل قوة المستوردين والمستفيدين..

وأقول ان أحد أسباب الكوارث الاقتصادية فى أى زمان هو سياسة الحكومة الاستيرادية.. ولو تبنت الحكومة مثل هذه السياسات لتنمية التصنيع المحلى لتَرَشّدَ الانفاق وهبط العجز ونقصت البطالة.. لن تخرج مصر من كبوتها ولن تتقدم الا من خلال فكر استراتيجى يؤمن بالتصنيع المحلى ويؤمن بقدرات الانسان المصرى يحكمه الضوابط والمواصفات العالمية..

بناء مصر يأتى من خلال الاستراتيجيات التى يحترمها الجميع وهى أيضا ذات الأولوية والقابلة للتنفيذ وذات المردود الذى يضيف اقتصاديا وسياسيا.. وليس الشعارات.. وفى هذا المجال نجد أن ما قامت به الدكتورة غادة والى وزيرة الشئون الاجتماعية مؤخرا من شرائها سيارات لخدمة أطفال الشوارع من التصنيع المحلى ينم عن توجه وطنى وتفهم للاستراتيجيات التى تخدم الأهداف الأساسية والمحورية للنهوض بمصر.. ونتمنى أن نرى مزيدا من التعميم لهذا التوجه..

نعم الرفاهية جميلة وبعض الناس يعتقد ان السيارات المستوردة أكثر رفاهية.. ومن يكره الرفاهية! لكن الرفاهية التى تخدش اقتصاد مصر محرقة للأهداف القومية ولا موقع لها فى تنمية مصر.. وأذكر ذهابى الى أمريكا بعد تعيينى وزيرا حيث جاءت لى احدى كبريات الشركات لتعرض انتاجها من سيارات الإسعاف والعيادات المتنقلة والمبهرة بالطبع مشيرين إلى أنها تحت الفندق لعرضها.. لم أقابلهم ولم أنظر الى السيارات وقلت إن العدالة مع الجهات المتنافسة أو المتقدمة شيء أساسي، ويمكن لى أن أشاهد هذه السيارات إذا حضرت الى مكتب الوزارة فى القاهرة مثلها مثل السيارات الأخرى، بالإضافة الى تقدمهم من خلال مناقصات الوزارة.. وأجابوا بأن أسعار المناقصة لا تتناسب مع انتاجهم رفيع المستوى.. ودون تردد كانت اجابتى نحن لا نحتاج الى انتاج رفيع المستوى لأننا لسنا فى أمريكا.. نحن هنا فى مصر لا نملك تمويلا لذلك.. ولأننا لا نستطيع الشراء بالأمر المباشر فليست هناك فائدة حتى من النظر اليها.

سيارة الإسعاف على أهميتها هى جزء من كل، ولا يمكن اختزال خدمة الطوارئ والاسعاف لتنحصر فى السيارة الناقلة، فهى ليست العامل المطلق للخدمة واقول لأبنائى العاملين فى المجال إن الانسان وتنميته هو الجزء الأساسى فى تقديم أى خدمة.. ولقد كان لى الشرف فى قيادة الفريق الصحي.. فريق عمل قاد صناعة المستقبل فى الصحة بأضعف الامكانات التى لم تقف حائلا فى تحقيق تنمية صحية وسكانية شاملة وإيجاد حل كامل لكل مريض فى مصر.. ليس فقط فى الطوارئ والاسعاف ولكن فى كل مجال وصارت الوقاية والعلاج وتنظيم الأسرة حق لكل مواطن.. ولأول مرة صار الدستور الذى حمل حق الصحة والعلاج فى مواده الأساسية واقعا ملموسا فى عام 1998، بل وامتد ذلك فى حق المريض فى الجودة الكاملة.. وأنا لست بصدد الحديث عن أبعاد الثورة الصحية والإصلاح الصحى الذى قد يأخذ مجلدات.. ولكن الفضل الأكبر يرجع للزملاء والابناء الذين بذلوا عطاء غير محدود وأجادوا وكانوا الرجال وقت الأزمات.. وأيضا الى كثير من الاجهزة والوزرات الذين ساعدوا العمل الإنسانى..

لقد كان محور التدريب ورفع الكفاءة قرة عين الوزارة، واستحدثنا مركز تدريب متخصصا لرفع كفاءة العاملين، وأوفدنا البعثات للتدريب فى مراكز طب الطوارئ فى أمريكا وبريطانيا وهولندا، واستقدمنا كبار الأساتذة فى طب الطوارئ ليس لإلقاء المحاضرات ولكن لتدريب الشباب على طريق مصر الإسكندرية وطريق الصعيد وتقييم الأداء لهم، وأنشأنا 18 مركزا للتدريب بالمحافظات.. وأبدع أبناؤنا فى إيجاد حلول غير تقليدية للتغلب على التكدس المرورى بالشوارع، وخرجت الإسعاف من مقرها التقليدى للتواجد أسفل الكبارى ومطالعها، وتقاطع الشوارع، وبمواقع عمودية على أماكن التكدس..

وعملنا على توفير مناخ وبيئة عمل مناسبة وكان ذلك إحدى ركائز النجاح حيث وفرنا سبل الإعاشة المريحة، ومصادر طاقة بديلة، ومحطات للطاقة الشمسية ومصادر مياه فى الصحراء، وكذا شبكة اتصالات للإسعاف غطت مصر بالكامل، كما وفرنا الزى اللائق والتدريب لمقدمى الخدمة، بالإضافة إرساء غرفة متابعة مركزية.. وكانت هناك لجان متخصصة للمتابعة المستمرة وتقييم جودة الأداء وشمل ذلك مثلا زمن وصول السيارات، ونقل المرضى، وتجهيزات سيارة الاسعاف، وأداء المسعفين فنيا والتزامهم بالزى الرسمي، واستخراج الإحصاءات الشهرية وقراءتها بدقة شديدة، واستخلاص المؤشرات ودراستها من خلال تحليل علمى يقف على مدى التقدم فى العمل والمحددات والمؤثرات والمعوقات لمزيد من الجودة..

ولجهودها المتميزة مُنحت مصر العظيمة درع التفوق من الجمعية الأوربية لطب الطوارئ عام 2000، ومن الأكاديمية الأمريكية لطب الطوارئ عام 2001، وفى عام 2004 بعد خروجى من الوزارة دعيت لأكون ضيف الشرف لأكاديمية طب الطوارئ ولألقى كلمة المؤتمر الرئيسية عن «إنسانية طب الطوارئ فى مصر» نظرا لمتابعتهم التغير الذى طرأ على مصر كدولة نامية فى مجال الإسعاف وطب الطوارئ وفى مجانية علاج الطوارئ إذ كان للقرار الوزارى الذى يسمح للمصاب بالعلاج المجانى فى أى مستشفى لمدة 24 ساعة أكبر الأثر فى تقدير اسم مصر عاليا، وعلق رئيس المؤتمر قائلا كنت أتمنى أن يكون هناك قرار مماثل لقرار مصر يطبق فى أمريكا.. وقد ألزم القرار الوزارى الذى أصدرته عن قناعة بأن تقدم خدمات الطوارئ والاسعاف مجانا وأن تلتزم جميع المستشفيات الحكومية والخاصة والاستثمارية باستقبال حالات الحوادث خلال الـ24 ساعة الأولى مجانا، وأوجد القرار طرق متابعة وتنفيذ القرار ضمانا لسلامة المواطن..

وتغير أداء الإسعاف ليس فقط بمعنى «سيارة» ونقل مصاب بل تعدى ذلك ليكون الإسعاف فى خدمة متطلبات المواطنين وشمل ذلك توفير الاكسجين ونقله الى باب المريض مقابل 11 جنيها.. وتوفير الإسعاف لخدمة نقل الأطفال المبتسرين.. ونقل السيدات الى المستشفى أثناء الولادة خاصة فى الصعيد والقرى والنجوع.. ولم يبخل الإسعاف فى تقديم الخدمة للمسنين.. وتم توفير الرعاية المركزة كخدمة طوارئ تنطلق من المستشفيات ومعها طبيب لبدء العلاج الفورى أثناء نقل المريض نظير 15 جنيها.. وتم توفير أول طائرة للإسعاف الطائر وأيضا الإسعاف النهرى بالتعاون مع القوات المسلحة.. وسُمح للإسعاف بنقل جثث المرضى المتوفين إلى قراهم.. وفى خدمة الكوارث كانت هناك غرف عمليات متنقلة وكذلك عربات الرعاية المركزة وكان أطباء مصر العظام يتطوعون لإجراء العمليات وتخدير المريض فى الموقع للحالات المتردية..

تعلمنا خلال تطوير خدمة الاسعاف والطوارئ.. أن مصر بخير وأن فريقها الطبى المدرب قادر على اقتحام كل المشاكل وحلها.. تعلمنا أن التصنيع المحلى هو إضافة كبرى للإمكانيات وللطوارئ وللاقتصاد المصري.. تعلمنا أن السيارة المصرية جاءت أكثر تأثيرا من السيارات المزركشة فى نجدة المرضى وفى اسعاف الكوارث فقد انخفضت الوفيات فى الحوادث بنسبة 50% عقب تطوير خدمات الإسعاف وطبقا للإحصاءات الرسمية..

الانسان المصرى يبرع ويتفوق فى كل بقاع الدنيا إذا ما أتيحت له الظروف المواتية وهيئ له المناخ المناسب، وأن الطفرة التى سبق وحدثت فى الإصلاح الصحى أكبر دليل على ذلك.. إن إعادة رسم سياساتنا هى الخطوة الأولى على الطريق والحل الوحيد لمواجهة التحديات المتغيرة من خلال التعظيم لإنتاجية المصريين وابداعاتهم.. والدولة يجب أن تأخذ موقفاً جاداً فى تشجيع التصنيع المحلى وتعضيده وإزالة العقبات أمامه ليكون ذلك أحد المحاور الأساسية لدفع الاقتصاد المصرى وتقليل الاستيراد الذى يلتهم كثيرا من الموارد المصرية..

وزير الصحة الأسبق

 

[email protected]