عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

الاتجاه لتصدير الأدوية يوفر موارد للدولة تعادل دخل قناة السويس

لا توجد سياسات دوائية ثابتة.. ومطلوب استراتيجية كاملة للصحة

يجب توفير أدوية بجودة عالية وسعر منافس ودعم الرقابة وزيادة الصادرات

لدينا 145 مصنعًا توفر 93٪ من الاحتياجات الدوائية فى مصر

الحكومة أخطأت بزيادة أسعار الدواء 30٪ تحت سعر الـ20 جنيها

لا بد من تشكيل هيئة عليا للدواء وإشراك القطاع العام فى منظومة الأمن الصحى والدوائى

ضرورة وضع سياسات واضحة لمنع الاحتكار وتعظيم دور التصنيع المحلى

 

ملف الدواء فى مصر فى حاجة إلى نظرة شاملة.. فالدواء سلعة ذات طبيعة خاصة جعلت من الأمن الدوائى وتحقيقه هدفا لكل دولة.. ومصر سبقت كثيرا من دول العالم فى تصنيع الدواء ويرجع ذلك لعام ١٩٣٩.. ونمت هذه الصناعة وأقبل الكثيرون للاستثمار فى هذا المجال حتى بلغت مبيعات الأدوية فى مصر ٣٠ مليار جنيه..

قبل أن أبدأ أود أن أشير إلى أنه لابد من الاعتراف بأننا نمر بمرحلة حرجة فى أزمة الدواء، ولكنى أعود فأضيف أننا نستطيع أن نزيل هذه الصورة القاتمة وأن نصنع التغيير الإيجابى فى هذا المجال بل ونحقق الاستقرار الدوائى، الشيء الذى لم يحدث منذ عدة سنوات.. نحن قادرون على أن نحقق الإصلاح الكامل للسياسات الدوائية وأن تكون هناك نتائج قوية تنحصر فى شقين رئيسيين: الشق الأول هو توفير الدواء بأسعار مناسبة للمواطنين، أما الشق الثانى فهو كيف نخلق قناة سويس جديدة من خلال تصدير الدواء.. نعم الدواء هو الاستثمار الواعد وصادرات الدواء لا تأتى فقط بزيادة لموارد الدولة ولكنه أيضا صمام الأمان لشركات الدواء نفسها، بل ويعد العامل الوحيد المؤثر والقادر على الإصلاح الاقتصادى لها.. والمحزن أن صادراتنا من الدواء تتناقص وأصبحت لا تزيد على ٢٥٠ مليون دولار وهو بالقياس رقم بخس.. والغريب أن هناك دولا كثيرة دخلت بعدنا فى مجال الدواء ونجحت.. فمثلا الأردن الذى لا يملك غير ١٠ مصانع تبلغ صادراته الآن من الدواء ١.٨ مليار دولار.. أما إسرائيل فهى تملك أكبر شركة أدوية فى العالم لصناعة الدواء بالاسم العلمى له وصادراتها تبلغ ٦.٢ مليار دولار.. وإذا تحدثنا عن الهند التى بدأت تصنيع الدواء فى جراجات نجدها قد حققت الطفرة الكبرى فى صناعة الدواء فأصبحت تصدر بـ ٢٥ مليار دولار سنويا.. إذن فالتصدير هو الحياة لصناعة الدواء ولو أمكن تنظيم تصنيع الدواء وتصديره لأضاف ذلك موردا للدولة يماثل دخل قناة السويس.. ومن هنا كان توجهى دائما إلى ضرورة تنمية تصدير الدواء وقادت وزارة الصحة فى خلال تولى الوزارة العديد من القوافل الطبية والدوائية بالخارج والتى كان لها التأثير فى زيادة التصدير حينذاك بل وبعد أن تركت الوزارة دعوت بعضا من قمم صناع الدواء المصريين لحضور اجتماع منظمة الشرق الأوسط بالولايات المتحدة وكان عن الدواء فى عام ٢٠١٢ وكان من بينهم المرحوم الدكتور مكرم مهنا، والدكتور عبد الله ملوخية، والدكتور جمال الليثى وغيرهم وكانوا وجها مشرفا لمصر بالمؤتمر.. وأثبتوا أنهم على خبرة ودراية عالمية، وكان المقصود من ذلك محاولة فتح باب تصدير الدواء المصرى للولايات المتحدة والتغلب على الصعوبات القائمة.. وكنت أتمنى أن تسرى هذه الدفعة وتلتقط مصر الخيط لاستكمال مسيرة التصدير لكن الدولة غائبة فى كثير من المشاكل بينما أجندة المشاكل لا تشمل تصدير الدواء المصرى.. وتصدير الدواء يتطلب عملا شاقا لمدة عام أو عامين وتضحيات كثيرة، ولكن المردود أكبر من أى تصور..

وعندما توليت وزارة الصحة منذ عشرين عاما مضت، حدث تماما ما يحدث الآن.. كان آنذاك نقص فى ٢٣٥ دواء وسبع مجموعات دوائية.. ووزارة الصحة تصرح بأن مسألة نقص الدواء «أوشاعات»، ولم أستسغ ذلك الأمر، وعندما ذهبت إلى مجلس الشعب تحدثت بصراحة عن الأدوية الغائبة واعتقد البعض أن هذا إحراج للحكومة، ولكنه كان فى الواقع الخطوة الأولى لمجابهة المشكلة والمحاولة الجادة لكسب ثقة المواطنين وهو ما دفعنى أيضا إلى العمل سريعا من أجل وضع استراتيجية متكاملة للدواء ولم أكن بعيدا عن مطبخ الدواء حيث عمل معى الكثيرون أثناء رئاستى للجنة الصحة، وتحقق نجاح ملحوظ وملموس فى قطاع الدواء لوزارة الصحة استمر لأكثر من ثمانى سنوات ولا أنسى فضل كل العاملين وعلى رأسهم الكفاءات النادرة مثل المرحوم الدكتور مصطفى الحضرى والمرحومة الدكتورة جميلة موسى، إلى أن جاءت الأيدى لتعبث فى هذه السياسات دون تحكيم للعقل أو الاستفادة من التجارب السابقة.. وقد عملنا مع صناع الدواء وأوجدنا البدائل والسياسات المتوازنة وبعد ستة أشهر لم يكن هناك دواء غير موجود، وفى نفس الوقت كان علينا أن نواجه الحملات التى تجريها بعض وسائل الإعلام عن مواطنين يشكون عدم تأثير الدواء المصرى ونقص فاعليته.. ولم تكن المواجهة بالإنكار، بل فتحت الباب على مصراعيه لكل من يريد أن يتقدم بشكوى جادة، وأذكر أن من ضمن هذه الشكاوى دواءين أساسيين من أدوية القلب، وفعلا أرسلت مثل هذه الأدوية محل الشكوى للتحليل فى معامل بسويسرا وأخرى بالولايات المتحدة وثبت أنها لا تقل فى المادة الفعالة عن الأدوية المستوردة، ومن هذا المنطلق وضعنا كل المتطلبات والتعزيز لهيئة الرقابة على الدواء، وتم وضعها كجهة مستقلة عن وزارة الصحة فى قراراتها بالفعل وليس بالكلام واعتبرنا أن قرارها مثل قرار المحكمة، وضمت فى عضويتها كفاءات مصر المشهود لهم بالموضوعية والحيادية ونزاهة القرار، وتولى أمرها قيادة مشرفة من قيادات الصيدلة وهو الدكتور عبدالله ملوخية وأصبح والعاملون معه خير رقباء على الدواء فى مصر، وأصبحت لدينا القدرة خلال ٢٤ ساعة على سحب أى تشغيلة من إنتاج أى دواء يثبت أن به خطأ حتى لو كان هذا الخطأ نتيجة التخزين فى السوق.. وتم التصدير بجودة عالية.. ولك أن تعرف أن سحب الدواء ظاهرة صحية تحدث فى كل بلاد العالم، إذا كان هناك تشغيلات بها أخطاء وهو المغزى من الرقابة الدوائية، وترى أن الولايات المتحدة مثلا تسحب من الدواء فى المتوسط حوالى خمسين تشغيلة كل شهر ولكنها لا تغلق المصانع ولا ترفع الأسعار.. العقاب يجب ألا يمتد للمواطن ونحن فى مصر نحب الفرقعات التى فى بعض الأحيان قد تصيب المواطن وتكلف الدولة الكثير مثل الزوج الحمش الذى عاقب زوجته بقطع ذراعه.... وأتذكر حينما جاء الدكتور إبراهيم عزت مع قيادات البنوك لإنشاء مصنع للألبان فى مصر وشعرت أن ذلك يعد استثمارا للطفل المصرى ومنقذا للعملة الصعبة وكانت هناك حصة ٥٪ لوزارة الصحة.. وعندما حدثت مشكلة فى تشغيلة من التشغيلات انقلبت إلى دراما أن اللبن مسمم وانتهت بغلق المصنع تماما مثل الزوج الذى قطع ذراعه.. وانتهى حلم من أحلام مصر لإنتاج لبن الأطفال لتعيش بعدها دائما مهددة بكابوس نقص لبن الأطفال فى الأسواق.. نفس الموقف حدث من قبل مع الشركة المتحدة للمحاليل والتى أغلقت بقرار، لأن هناك خطأ حدث فى إحدى التشغيلات.. ولا تتعجب إذًا بأن سعر المحاليل قد زاد.. وإن وجدت.. نحن نحارب أنفسنا ونفرح بتوجيه الضربة القاضية حتى لو أصابتنا وكبدتنا مليارات.. ألا يوجد منطق لإصلاح الخطأ والاكتفاء بغلق خط الإنتاج الذى صدر منه الخطأ بدلا من غلق المصنع كله والذى ينتج ٥٥٪من احتياجات مصر.. ونرى فى الفترة الأخيرة أن سعر صندوق المحاليل ارتفع من ٢٤ جنيها إلى ١٢٥ جنيها وفى السوق السوداء إلى ٥٥٠ جنيها، هذا مجرد مثال يوضح أن القرارات العنترية أحادية البعد ودون دراسة تأتى دائما بنتائج عكسية تضر بصالح المواطنين والدولة..

المشكلة الرئيسية فى مصر حاليا، أنه لا توجد سياسات ثابتة للدواء.. وكما علمنا الخبراء من قبل فإن استراتيجية الدواء هى جزء لا يتجزأ من استراتيجية الصحة وبدونها لا يمكن تقديم الخدمة الصحية المتكاملة.. نعم لا توجد لدينا سياسات متوازنة وثابتة.. ومن المتوسم أن السياسات الحكيمة هى التى تحكم الجميع عدلا وتحمى صحة المواطن.. والقيادات أيضا هى التى تعرف مصلحة الدولة وتتعامل من منطلق كيف نعالج الموقف وليس كيف نسجل هدفا وهميا.. أهدافنا معروفة لنا: توفير أدوية ذات جودة عالية، وسعر منافس، وإنتاج وطنى، مع ترشيد استخدام الدواء، ودعم الرقابة عليه، وزيادة التصدير.. كلام سهل ومنطقى ولكن حتى ينفذ يجب أن تتوافر له آليات تحكمها قواعد بدءا من تسجيل الدواء وانتاجه ومراقبته وتسعيره وانتهاء بوصوله إلى المواطن أو تصديره وفى الحالين بجودة عالية.. والمفروض أن يتضمن ذلك أيضا آليات تنبئ مسبقا بتوقعات تفيد متى سينقص أى دواء، وتتيح الفرصة لاتخاذ التدابير فى الوقت المناسب، وأنا لن أدخل فى التفاصيل لكن الطريق واضح ومرصود من خلال إدارات تشرف على تنفيذه.. القواعد العادلة هى التى تريح المصنع والمراقب والمواطن ولكن عندما نتلاعب بالقواعد ونغيرها عن جهل أو إعراض لتصير غير مجدية فى تحقيقها للأهداف فإننا نصنع حائلا أمام الصناعة الوطنية.. والتعامل مع الدواء يجب أن يعد ويكون منهجا من مناهج الاستقرار، لأن الاستقرار قادر على حل المشكلات وعلى الالتفات للتطوير المستمر.

وفى مصر ما يقرب من ١٤٥ مصنعا مرخصا، منها ١٣٥ تقوم بالإنتاج الفعلى، بالإضافة إلى خمسين مصنعا تحت الإنشاء.. هذه المصانع تقوم بتشغيل العمالة المصرية وتوفر ٩٣٪ من احتياجات مصر من الأدوية المطلوبة، وعلى الوجه الآخر هناك تسعمائة شركة ليست لها مصانع ولكنها تعمل بنطاق التصنيع لدى الغير وهذه تحتاج إلى مراجعة.. وعندنا قطاع عام للدواء يتبع الدولة مثقل بهموم القطاع العام المتراكمة.. هذا القطاع يتبع قطاع الأعمال والتجارة والصناعة وهو بعيد عن وزارة الصحة!

أوضاع غريبة ثبت فشلها ولكنها مازالت قائمة.. والقطاع العام هو الذى يتحكم فى استيراد الكثير من الأدوية وتوزيع الألبان والأنسولين.. أكثر من ذلك فشركة الجمهورية هى التى تستورد كل الخامات الدوائية..

وفى مراحل سابقة قررت وزارة الصحة فى حملات الجباية إعادة تسجيل الأدوية القديمة وهو ما رفضت القيام به لصالح المريض، فقد كانت هناك أدوية باثنين جنيه وثلاثة جنيهات والشركات تقوم بإتاحتها ولم تتضرر أو تشكو لكن الوزارة تريد أن تعيد التسجيل وبالطبع لجباية رسوم عالية نظير إعادة التسجيل ما تسبب فى دفعات غير عادية لزيادة أسعار الأدوية الرخيصة أو توقف إنتاجها.. وصدر قرار غريب بالوفاة لكثير من الأدوية لأنها قديمة وغير مطلوبة والغريب أنها مازالت تباع فى أمريكا..

وأخطأت الدولة أيضا عندما أضافت زيادة فى سعر الدواء ٣٠٪ على كل الأدوية تحت سعر العشرين جنيها، لأن هذا القرار غير قائم على أسس اقتصادية ولا يحل مشاكل الأدوية التى تختفى من السوق ما أوصلنا إلى ما تلاها من مرحلة أصعب عندما انخفض سعر الجنيه المصرى أمام الدولار.. والدولة رفعت ثمن الغاز والبنزين والسكر ولكن لا تريد أن تعترف بارتباط الدواء بالدولار، وأنا ضد أى رفع جماعى لأسعار الدواء لأن التقييم الموضوعى هو الطريق الصحيح لإقرار الزيادة من عدمها.. وفى نفس الوقت صدر قرار من شركة الجمهورية وهى شركة قطاع عام، حيث أرسلت خطابا لكل شركات الأدوية التى تشترى منها خامات دوائية بإلغاء العقود ورفع الأسعار، وكان من الأقدر أن تنتظر حتى يصدر قرار منظِم من الدولة كى لا تستفز الشركات وتدفعها للمطالبة بزيادة أسعار الدواء.. وأنا لست مع الرفع العشوائى لكل الأدوية أو الخامات، فبعض الأدوية لن تحتاج إلى ذلك.

الارتقاء بالدواء المصرى إلى مرحلة النضج

سياسة التخبط فى قطاع الدواء كارثة على كل الاتجاهات.. والمدرك للأمر يرى أن هناك طلبات للدولة وأخرى لصناع الدواء، ولا شك أن الأهم فى المعادلة هو المواطن الذى يئن من سعر الدواء ولكن شكواه ستزداد عندما يختفى الدواء من السوق ويضطر لشرائه من المهربين.. وهذا يؤكد ضرورة وضع خطة عمل لنصل بالدواء المصرى لمرحلة النضج ويشمل ذلك:

أولا: أن تكون هناك هيئة عليا للدواء مكونة من عشرة أفراد هم قيادات وخبراء العمل الدوائى وليس لها انحياز إلى أى طرف من الأطراف.. وأنا ضد سياسة تمثيل الوزارات فى هذه الهيئة فيصير هناك ممثل لكل وزارة وعندئذ تغرق المراكب السيارة، لأن القرار يأتى من خارج دائرة الفهم المتخصص والخبرة المطلوبة.. وقد فهمت ذلك منذ زمن طويل وكنت أستمع للمناقشات البيزنطية فى لجنة الخصخصة ولم أسمع شخصا يتكلم عن التنمية أو عن زيادة العمالة وعندما صارحتهم بذلك شارحا وجهة نظرى أخرجونى من اللجنة! ومن هنا أرى أن اختيار القيادات للعمل بالهيئة يأتى باعتبارهم محكمين مثل القضاة، فيضمن للهيئة استقلاليتها ويكون لها هيكلها الفنى والإدارى لمهام تضم فى المقام الأول الرقابة على الدواء والسياسات والتنفيذ.. وهذه الهيئة نفسها هى التى تقوم بتنظيم الدواء وتسعيره ومراقبته ولا يعقل ألا يكون عندنا هيئة للدواء ومعظم الدول العربية لديها هيئات للدواء لوعيها التام بالدور المنوط بها.

ثانيا: إشراك القطاع العام فى منظومة الأمن الصحى والدوائى

إن القطاع العام هو الأمل فى خلق أمن دوائى فى المستشفيات والوحدات الحكومية ويمكن وضع آليات ليصبح هو المنتج للأدوية الأساسية وهى مجموعة من الأدوية التى تعتبرها منظمة الصحة العالمية أدوية يجب توافرها لكل المواطنين.. الآن لا يوجد علاج حقيقى فى وزارة الصحة، علما بأن جداول الأدوية الأساسية التى ترسيها منظمة الصحة العالمية مضافا لها بعض الأدوية الأخرى عددها لا يتعدى خمسمائة أو ستمائة دواء يمكن للقطاع العام أن ينتجها بوفرة فى عبوات مكتوب عليها "خاص بوزارة الصحة وغير قابلة للتداول"، وقد سبق لى تعميم هذه التجربة وثبت فاعلية هذا النظام فى توفير الدواء لغير القادرين وكان هو الحل لمجابهة ظاهرة استبدال الدواء فى بعض الصيدليات نظير قيمة مالية ضئيلة ولا يستفيد المريض من الدواء.. ويجب أيضا أن يتم تبعية القطاع العام لوزارة الصحة، ومن غير المنطقى أن نجعل إدارته بعيدة عن الصحة ليس فقط لأن ذلك يأتى فى صميم عملها، بل أيضا لما نتج عنه من تأثيرات عكسية أصابت حيوية هذا القطاع والذى لم يستثمر الاستثمار الصحيح..إن الحديث عن التأمين الصحى الجديد وتوفير الدواء حديث مرسل إن لم تكن هناك آليات تدعم ذلك ومنها توفير الدواء.

ثالثا: إن ارتفاع الدولار حقيقة، ولكن تعلمنا أن مناقشة الأسعار يجب أن تكون مختلفة لكل دواء، ولهذا أرى أن يتم مراجعة عدد محدد وليكن من خمسة إلى عشرة أدوية تقدمها كل شركة كل ثلاثة أشهر لمراجعة السعر، والشركات نفسها ستختار الأدوية التى تتأثر بوطأة ارتفاع الدولار، مع فتح باب التسجيل السريع للشركات التى أصابها ضرر واضح.. وهذا حل سياسى مناسب.. صحيح أنه لا يحل كل المشكلة لكن يعطى الأمل بأن هناك تفهما وتقدما مستمرا علـى المدى الطويل.

ويجب أن أُذَكّر بعلو الحس الوطنى والإنسانى لدى الكثير من قيادات صناعة الدواء، وأذكر حين كان محلول الألبومين يتم استيراده بسعر مرتفع فى ذلك الوقت فبلغ ٢٧٣ جنيها وقام أحد الشباب من صناع الدواء آنذاك باستيراده وبيعه فى مصر بمائة جنيه ليحل المشكلة ويخفف من وطأة المعاناة للمرضى.. ولم يتوان الكثيرون من صناع الدواء الوطنيين عن عمل المستحيل لإنتاج الأدوية المستوردة بأقل من ربع ثمنها.. وتوالى بعد ذلك كثير من العطاء الوطنى من جانب هذه الهامات العالية من قيادات صناعة الدواء.. بل قد يستغرب البعض حين يعرف أن بعض صناع الدواء كانوا يقدمون تخفيضات فى تسعيرة بعض الأدوية كهدية للوزارة والمرضى فى الأعياد.

ولتبدأ الدولة بالتقارب مع صناع الدواء الذين كان لهم تأثير عظيم فى الإبقاء على أسعار الدواء ثابتا سنوات عديدة فى الوقت الذى كنت فيه وزيرا وامتد بعدى بزيادات بسيطة سنويا لعدة سنوات.. وخلال فترة عملى كنت أجتمع شهريا مع صناع الدواء لدراسة مشاكلهم والعمل على حلها بحلول متوازنة، وعلى الوجه الآخر أتفق مع صناع الدواء فى أن التباطؤ فى اتخاذ القرار له عوامل سلبية متعددة تزيد من تعقيدات المشكلة.. فليس من الحكمة أن تترك الدولة ثروة مصر من صناعة الدواء تتعرض لأية هزات.. وعلى صناع الدواء أن يكون لديهم القدرة على صنع الأمل وتحقيقه فى سياسات تصديرية مفيدة للدولة.

رابعا: تعظيم دور التصنيع المحلى وتوفير العملة الصعبة

فى ظل التحول الاقتصادى الذى نعيش فيه تحتاج الدولة إلى تعظيم الدور المحلى لتصنيع الدواء وذلك لسد حاجة المجتمع وتوفير الدواء فى مصر بشكل ثابت من خلال توفير العملة الصعبة اللازمة فى التوقيت المناسب عن طريق القنوات الشرعية خاصة للأدوية التى بها نقص.. ويجب أن تدرك الدولة أن قيامها بذلك سيقوم بتوفير الكثير من العملة الصعبة لأن ثمن الدواء المصنع فى مصر يمثل ربع أو خمس ثمن المستورد..

ويجب وضع سياسات تحفيزية لتصدير الدواء، وأن تساهم الدولة فى حملات تنشيطية لتصدير الدواء والعلاج، لأن ذلك يمكن أن يجلب لمصر المليارات، ومن هذا المنطلق يجب أن تكون هناك خطط مدروسة كما فعلت الهند فى تجربتها فى تصدير الدواء، ويجب حل مشكلة سعر الدواء فى بلد المنشأ وقد اقترحت أن نوصف السعر بـ«السعر الاجتماعي» وإن كان قد سبق ورفض صناع الدواء هذا الأمر، إلا أننى ما زلت أراه حلا مناسبا قد يقبلونه الآن فى ضوء الواقع والمتغيرات المحيطة حاليا، وأيضا أشعر بأن الدولة مسئولة عن إرساء مركز معتمد لدراسة التكافؤ الحيوى، ويجب أن يكون هناك قانون يحمى المريض فى الدراسات السريرية، ويتحتم أن نزيل كافة العراقيل التى تؤثر على التصدير من خلال التسجيل والتسعير.

ويجب أن تتبنى الدولة الإعداد التكنولوجى للمصانع الجادة والمميزة وتطويرها ودمجها إذا ما كانت هناك الحاجة إلى ذلك للدخول إلى العالمية فى إطار تنمية التصدير إلى أوروبا والولايات المتحدة.

خامسا: إن الدعوة إلى إنشاء شركات جديدة شبه حكومية لحل أزمة مشتقات الدم أو استيراد الدواء شيء لا يصدقه عقل.. هل إضافة شركة جديدة سييسر عمل الحكومة لحل الاختناقات؟ لا أعتقد، فالمشاهد أنه عندما نقلت الحكومة خدمات الدم على سبيل المثال وعهدت به إلى شركة أدى ذلك إلى تردى الخدمة وعدم توافر الدم، فقد تسلمت شركة فاكسيرا مشروع الدم المصري-السويسرى بعد خروجى من الوزارة وهو المشروع الذى ضاعف أربع مرات رصيد مصر من الدم، وقضى على الاحتراف، ووفر الدم الآمن الخالى من المرض فى الوقت المناسب لكل من يحتاجه فى كل أنحاء مصر سواء كان مواطنا أو مستشفى.. وبقدرة قادر استولت الشركة على المشروع وطبعا تراجعت منظومة خدمات الدم لأن الشركة لن تجرى أو تسعى طلبا أو حرصا على التبرع بالدم، أو تنظر فى اعداد فريق العمل وآليات التأمين والحفظ والتسجيل الإلكترونى للدم وهو ما كان متبعا بالفعل فى وزارة الصحة.. الشركة تريد «اللحم المشفى» والمخصصات.. ويتضاعف سعر قربة الدم عدة مرات وتتحول من خدمة إنسانية إلى سلعة تجارية كى تحقق الشركة أرباحها.. والآن أصبح الحصول على الدم عقبة كبيرة يلمسها المواطن قبل المنشأة الطبية.. نحن فى حاجة ماسة إلى تصحيح مسار خدمات الدم فى مصر إلى ما كان عليه من قبل وكان المشروع المصرى -السويسرى محل فخر كل من مصر وسويسرا.. وعندما قابلت وزير خارجية سويسرا فى إحدى المناسبات بعد خروجى من الوزارة قال لى بالحرف إن أفضل مشروع قامت به سويسرا فى مجال مساعدة الدول النامية هو مشروع الدم المصري- السويسرى.. علاقاتنا كانت أكثر قربا وتواصلا مع الدول حينما كانت بيننا أهداف مشتركة، ومشروعات جادة مشتركة، ونتاج إنسانى جار نلتف حوله ونفخر به.. والآن وقد زادت معاناة المرضى وتضاعف سعر الدم عدة مرات نتيجة القرار الخاطئ الذى وأد الحلم بعد أن صار واقعا بتوفير الدم الآمن لكل مصر- فلابد أن تصحح هذه الأوضاع الخاطئة بإعادتها مرة أخرى كإدارة بوزارة الصحة.

سادسا: إن الدولة يجب أن تضع سياسات واضحة لمنع الاحتكار ويجب أن تكون هناك موافقة قبل بيع أى مستشفى أو مصنع للدواء ولقد أزعجنى أن أسمع أن أول مصنع دواء لأدوية السرطان بعد طول انتظار قد تم بيعه لشركة أردنية.. ولا أعتقد أن ذلك يجيء حلا لتحقيق الأمن الدوائى.. هذه هى مصادر وثروات مصر التى يتعين أن تستفيد منها وتبنى عليها.. بل تسمع أن الدولة بصدد انشاء مصنع جديد.. الدولة يجب أن تكون لها دراسات وتصور واضح وقواعد ثابتة للتفرقة بين الاستثمار والتفريط.. وأنا لا أفهم الاستثمار الأجنبى ومغزى الإقبال على شراء مستشفيات أو مصانع قائمة قد تؤدى فى النهاية إلى ظهور الاحتكار، بل يتضح فى كثير من الأمر أن ما يُشترى بدعوى الاستثمار هو بالطبع الأرض محل موقع المنشأة!

سابعا: إن تعويم الدولار كان كارثة على الدواء والمستلزمات الطبية وكان المفروض على الحكومة أن تضع فى اعتبارها  تلك المشاكل المتكررة والمتتالية بل والتفكير فى إتاحة البدائل.. وفى الوقت الذى تظن فيه الدولة أن المستشفيات خاصة أو عامة عليها أن تدفع، فواقع الأمر يفيد أن من يتحمل زيادة الأسعار هو فى النهاية المريض قادرا أم غير قادر.. لقد أصبح من المألوف أن يذهب المريض إلى المستشفى لإجراء عملية مقررة ويقال له لا توجد صمامات أو رئات صناعية.. لا يمكن أن يحدث ذلك فى وقت تتحدث فيه الدولة عن الاستقرار والتقدم.. أى استقرار وأى تقدم هذا الذى يضع الإنسان مكتوف الأيدى أمام مرضه!

ثامنا: الحديث عن عدم فاعلية الدواء المصرى يؤدى إلى كثير من المشاكل لسمعة الدواء المصرى فى الداخل والخارج، وللأسف إن سبب عدم فاعلية الدواء قد يكون لخطأ فى التشخيص ويجب أن تتكلم الرقابة على الدواء بشفافية ومصداقية والعبرة بنتائج المعامل المعتمدة لتحليل الدواء.. فلا أرى مصلحة للدولة أو المصنع أو الرقابة فى إتاحة دواء نصف فعال أو غير فعال للمريض، المشكلة الكبرى فى الدواء المهرب من الخارج والذى ثبت عدم فاعليته فى ٤٩٪ من العينات ومن ثم يجب أن نكون حريصين على عدم شراء الأدوية المهربة.. أما الأدوية المصرية وأنا أستعملها فجودتها عالية، لأن الرقابة تبدأ فى داخل المصنع وخارجه والمصنع يشترى المادة الخام المسجلة.. علينا أن ندرك أن الدواء المصرى ليس وليد عدة سنوات.. الدواء المصرى خبرة سبعة وسبعين عاما لرجال زرعوا التاريخ الحضارى لمصر قبل كثير من الدول.

القضية ليست الدفاع عن صنّاع الدواء ولكن دفاعى فى المقام الأول هو عن صناعة الدواء المصرى وتوفيره للمصريين فى هذه المرحلة الصعبة، وهذا رأيى المجرد ولم ولا أنتمى إلى شركات للأدوية بالداخل أو الخارج.. وأنا وغيرى من المصريين لن نكون سعداء برؤية تعثر هذه المصانع وشرائها بمن ينتهزون الفرص من أجل تحقيق الأرباح.. لا نريد أن نرى ثرواتنا القومية تذهب ومقاديرنا معها تذهب إلى الملاك الأجانب.. هؤلاء المصريون الذين كافحوا وثابروا يستحقون أن نحشد لهم التعضيد من أجل بقاء الدواء المصرى مصريا.. نرجو ألا ينال صناعة الدواء حظ صناعة النسيج وغيرها من الصناعات المتهاوية والتى يصعب حصر ما تبقى منها بالفعل.

علينا أن ندرك أن العالم يسير بخطى سريعة فى مجال الدواء وكل يوم تضاف أدوية حديثة تقهر كثيرا من الأمراض.. ويجب أن يكون لمصر قسط ومشاركة فى ذلك والأمل معقود على صناع الدواء، والدولة مسئولة عن خلق المناخ المناسب لتعزيز قدرات الدواء المصرى وفتح الآفاق للتصدير، وكذلك خلق قوى اقتصادية جديدة لتعزيز قدرات مصر، وأنا لا ألمس قطاعا واعدا مثل الدواء وإن كان فى نفس الوقت يحتاج إلى تنظيم بقواعد تتناسب مع العصر الذى نعيشه وبما لا يقل عن مثيله فى الدول المنافسة.

 

وزير الصحة الأسبق

[email protected]