عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

 

ٍ

وحدة المسلمين والمسيحيين عبر مئات السنين لن تدمرها العواطف الطائشة

يجب الخروج من دائرة الخلافات الضيقة إلى مفهوم العبادة الواسعة

منذ شهر تقريبا ذهبت لصلاة الجمعة بالمركز الإسلامي بمدينة بيتسبرج وقبل الصلاة دخل علينا المسجد قسيسان يحملان لوحتين.. اللوحة الأولى حوالي متر والنصف واللوحة الأخرى حوالي نصف متر، واللوحتان منسوختان كوثيقة مسجلة.. وبدأت الصلاة والقسيسان ينتظران في أدب جم في جانب من المسجد حتى إذا بدأت الصلاة وقفا ووجهاهما في اتجاه الحائط في خشوع حتى انتهت شعائر صلاة الجمعة.. وتقدما عندئذ للإمام وتناول أحدهما الميكروفون قائلا :نحن اخوة لكم في عبادة الله، وقد شعرنا في الآونة الأخيرة أن هناك تعديًا على الإسلام والمسلمين بسوء القول والفعل، وحيث إننا جيران لكم وجدنا أن علينا واجبا مقدسا أن نقف معكم، ونشعر من خلال قراءاتنا أن هناك سوء فهم للإسلام، ولقد حضرنا لكم لنقدم هذه الوثيقة والتي وقعها أربعمائة وخمسون شخصا من متبعي  الكنيسة في عهد وميثاق مكتوب.. الوثيقة تحمل العنوان قرار من متبعي الكنيسة متضمنة نفس المعاني ولكن بصيغة قانونية، وتنتهي الوثيقة بالدعم الكامل لجيراننا المسلمين والدفاع عن معتقداتهم وتعضيد حقوقهم المكفولة في ممارسة عبادتهم..

والحقيقة أن  الحدث لمس قلوب كل المصلين الذين توقفوا لمصافحتهم وشكرهم.. وشعرت بأن هذا هو معنى النبل والسمو في العلاقات بين الأديان.. نعم فعندما يحضر جارك ليرفع من قدرك أو ليشاركك فيعد ذلك لمسة جميلة.. ولكن عندما تحضر الكنيسة بعهد وميثاق فهذا هو النبل.. بل أكثر من ذلك، لقد شعرت بورع هذين القديسين ونحن في الصلاة.. بالرغم من عدم معرفتهم بما يقرأه الإمام ولكنك تشعر بأننا جميعا في حضرة الواحد القهار.. فهم واقفون في مواجهة الحائط لا ينظرون يمينا أو يسارا ولكن رؤوسهم مخفوضة في ورع وابتهال.. لقد سجل هؤلاء موقفا حضاريا بتجلي الروحانيات وتقاربها.. ليس فقط القيادات ولكن الجميع.. ولم يغب عن ذهني ما حدث في ١١ سبتمبر ٢٠٠١ عندما حاول بعض المتطرفين حرق المركز الإسلامي في مدينة لوس أنجيلوس الأمريكية.. وخرج القساوسة وعائلاتهم ليصطفوا أمام المسجد ليقولوا فلتحرقونا أولا قبل أن تحرقوا المسجد.. و فى هذا المسجد نشأت علاقات وطيدة واحترام متبادل بين الأديان في هذه المنطقة..

 

ومنذ البداية تجد التاريخ عظيما في العلاقة بين المسلمين والمسيحيين.. والذي يقرأ عن عمرو بن العاص في فتوحاته يتعلم كيف كان عادلا متحضرا.. فلقد أشرف على بناء المساجد وبناء الكنائس.. لقد تعلمت درسا من هؤلاء القساوسة وهم يشرحون لي أن حماية الجار أهم من حماية الدولة.. نعم هذا هو المفهوم الذي يجب أن ندخله للأذهان.. كان يكفيهم القول بأننا نطالب الحكومة والبوليس بالقيام بحمايتكم.. ولكن جاء العمل أكثر نضجا وعمقا عندما عهدوا على أنفسهم مقرين بتوفير هذه الحماية وهم يضعون واحدا من الأسباب اننا جميعا نعبد الإله العظيم الرؤوف الرحيم.. الناس اذن تبحث عن قواسم للاتفاق ولكننا نتفنن في إيجاد الأسباب للخلافات..

نحن في حاجة الى تقاليد ومفاهيم وثقافة جديدة تجعل التعاون والحب والمسئولية تبدأ من أسفل الهرم الى قمة الهرم.. لأن قمة الهرم في تناغم واضح وتعاون صادق تلمسه بين الأزهر والكنيسة والدولة.. ولكننا في حاجة الى تنمية العلاقات الروحانية بين الأديان على مستوى القاعدة.. يجب أن نعيد دراسة كتب المطالعة لتحوي الفضائل والقيم.. وأشعر أن هناك فارقا كبيرا فيما كنا نتعلم منه وما يعلمونه الآن.. نحن في حاجة الى إقامة نماذج جديدة تخرج بنا من دائرة الخلافات الضيقة الي دائرة العبادة الواسعة.. في حاجة الي القدوة من الحكماء داخل المجتمع لنبرز عمق العلاقات السماوية التي عاشت في قلوب شعبنا عبر مئات ومئات السنين.. هناك دور رائد للمثقفين مسلمين ومسيحيين لإبراز مشاعر الإيثار والرحمة..نحن في أشد الحاجة الى أن يجمعنا عمل مشترك بدلا من ان تفرقنا الاختلافات.. علينا أن نبرز مضار الاختلاف ونبعد الكراهية عن شعبنا العظيم، ومرجعيتنا هنا هي تاريخنا المشرف والذي وحد مشاعرنا واختلطت فيه دماؤنا في الدفاع عن مصر..

 وتحضرني الذاكرة عندما كنت وزيرا للصحة وكانت مصر ترأس اجتماع السكان الذي كان يمثل نصف سكان العالم وكانت هناك خلافات قائمة في بعض الدول في وجهات النظر الدينية في عدد من المسائل الدينية، وقررت أن أدعو شيخ الأزهر والأنبا شنودة ليتحدثا أمام ممثلي الدول.. وشعرت بالفخر وهم يستعرضون تعاليم الإسلام والمسيحية في منطقية ويسر هزت مشاعر الحاضرين ووقف العديد من رؤساء الوفود يشيدون بعظمة مصر.. وقال رئيس الوفد الأردني إن ما يشاهده ويسمعه هو ملحمة فكرية تبرز أن مصر أم الدنيا.. وأن عمق التفهم لمشاكل المرأة  ورعايتها أكبر دليل علي أن الإسلام والمسيحية تتلاقي في كثير من الرؤى التي تحمي المرأة وصحتها.. وخرجنا من المؤتمر بحدث جليل ليسهل حياة الشعوب ويبرز ضرورة توفير أركان الرعاية ليصح المجتمع.. وهذه التجربة دفعتني الي تعميق فكر التوافق في الدين الإسلامي والمسيحي من أجل صحة المجتمع .. وقررت أن يكون هناك عمل مشترك للتدريب في مجال السكان والصحة وأن يشارك في هذه الاجتماعات رجال الدين من الأئمة والقساوسة.. وكانت البداية ليست بالسهلة ولكن كانت النهاية هو سمو الأديان وتوطد العلاقات الانسانية.. وخرج الجميع من خلال حلقات العمل مليئين بالود والمحبة وشعر الجميع بأننا أكثر اتفاقا وأقل خلافا.. انا أدعو الهيئات والجمعيات الي تنمية مثل هذا العمل ليس علي مستوي القمة ولكن بين القاعدة العريضة في المدن والقرى.. إننا في حاجة الي البعد عن تسييس الدين من خلال مناهج لإنماء دور الدين في وحدة المجتمع..

والدعوة التي تأتي من خارج البلاد لا تثمر ولا تغني بل تزيد الخلاف وتعمقه وشعرت أبن هذا هو رأي الأنبا شنودة في ذلك الوقت.. ودعني أقص عليك لقاء رئيس وزراء النرويج السابق مع الأنبا شنودة عندما كنت مرافقا له اثناء زيارته لمصر في ذلك الحين.. وكانت هناك بعض المناوشات بين الأقباط والمسلمين استفسر عنها الزائر.. ورد الأنبا شنودة في حكمة بالغة قائلا ان مشاكلي مع المسلمين بسيطة وعارضة فنحن أبناء وطن واحد عشنا سويا مئات السنين.. صحيح أن هناك خلافات بين البعض والآخر ولكنها خلافات محلية ونحن قادرون على حل مشاكلنا الداخلية وشرح له المثل الشعبي «أنا وأخي على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب».. ومضى يشرح في استطراد مشاكل الأقباط مع إسرائيل وغياب حقوق الإنسان في الأرض المحتلة وحرمانهم من الرحلة المقدسة.

وخرجنا بعد ذلك لمقابلة المرحوم الامام الأكبر سيد طنطاوي وسأله رئيس الوزراء عن بعض مفاهيم الإسلام وكان رحمة الله عليه السهل الممتنع فكانت ردوده سلسة وواضحة وعندما سُئل عن علاقة الاسلام بالأديان الأخرى أفاض فضيلته في شرح آيات القرآن الكريم التي تدعو الى عدم التفرقة بين الرسالات السماوية في قوله تعالى «شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه».. وتطرق الحديث أيضا الى المساواة في الإسلام وأن الناس سواسية لا فرق بين أبيض وأسود عجمي أو عربي فما يميز الانسان عن الآخر هو التقوى.. وشرح له أن الرسول صلى الله عليه وسلم اعتبر ما قبله من الأنبياء والمرسلين هو جزء من التكامل الذي جاء به كخاتم النبيين ليكمل هذا البناء.. وشرح الإمام الأكبر رحمه الله أساليب الدعوة في الإسلام وأنها قائمة علي أسس قوية تدعو الي احترام العقل والاقتناع فلا اكراه في الدين والدعوة يجب أن تكون بالحكمة والموعظة الحسنة مبينا أن الحكمة هى أعلي مراحل العلم..وخرج رئيس الوزراء منبهرا وقال لي إن مصر غنية وآمنة بوجود هؤلاء الحكماء في قيادة الدين الاسلامي والمسيحي وانه متأكد من أن هؤلاء العقلاء قادرون على إرساء المحبة والسلام بين كل أبناء مصر..

إن الوحدة التى جمعت هذا الشعب مئات السنين لن تتطاير بفعل بعض العواطف الطائشة التى تفقد بعض الناس الصواب والحكمة ويجب أن نحذر من مثيرى الفتن من أجل مكاسب بعيدة عن الدين.. ويجب ألا نتهاون مسلمين ومسيحيين مع من ينمون الفتنة لسوء الفهم أو لمرض في نفوسهم أو بغيا لتحقيق مكاسب دون أي مراعاة لربهم وأهلهم ووطنهم..

وأعود الي زيارة ممثلي الكنيسة الي المركز الإسلامى ببيتسبرج والتى لمست مشاعرنا وأظهرت فلسفة مبهرة عن تعاطف الأديان وعن انماء دور الدين فى ارساء العلاقات الطيبة وحماية الآخرين  حتى وإن اختلفوا ففى النهاية فى اتفاقهم رحمة.. وما أجمل التعاليم السماوية في القرآن الكريم عندما يأمر الخالق العظيم: «ادفع بالتى هى أحسن» كمنهج ناجح ودواء ناجع لإبدال الكراهية بالحب والتصادق.. إن مثل ما قام به القساوسة هو ما بهر الشيخ محمد عبده عندما رأى خلق الإسلام فى غير المسلمين.. نحن أولى بذلك، وحمى الله مصر من الفتن والفرقة.

 [email protected]