نعم للموت حرمته.. ولكن!
سؤالنا هو : إذا لم يكن للأمر علاقة بثورة تونس، فبماذا نفسر ما حدث؟ ولماذا تزايدت حالات الانتحار حرقا ليس في مصر فقط إنما على امتداد عدد من الدول العربية؟ على الصعيد المصري نتساءل : إذا كانت محاولة الانتحار الأولى هي لصاحب مطعم يريد زيادة حصته من العيش، حسب تأكيدات الدكتور سرور، وهو سبب شخصي بامتياز، فهل يفقد ذلك الحادث دلالته؟ إجابتنا التي تعكس ما نراه بعيدا عن محاولات التزييف السياسي أنها: لا.. ذلك أن مجموع الأسباب الشخصية، حسبما تعلمنا، والدكتور سرور أستاذنا في ذلك، هي الأسباب العامة. ولتوضيح ما نود الإشارة إليه نقول إن أعضاء مجلس الشعب الذي يتولى سرور رئاسته لم يصلوا إلى مناصبهم سوى من خلال صوت واحد لكل مواطن، على النحو الذي يجعلنا نقرر أن الشعب انتخبهم.. فمجموع الأصوات هى الشعب في حين أن من أدلى بصوته هو فرد فرد.. وليس هناك كيان ملموس يمكن الإمساك به والقول بأنه الشعب. وعلى المنوال ذاته فإن مجموع حالات الانتحار لأسباب شخصية هنا هي انعكاس لحالة سخط ومظالم عامة اقتصادية أو اجتماعية أو حتى سياسية لا يمكن النظر إليها في التحليل الأخير سوى على أنها تعكس تقليدا لما جرى في تونس.
قد يكون التقليد أعمى ويفتقد المنطق، وقد لا يأتي بتأثيره باعتبار أن "كيمياء الثورة" التي حدثت في تونس لا تتوافرعواملها في مصر، أوأنها تتوافر ولكن لم يحن الأوان لتفاعلها بالشكل الذي يتيح تكرار ما حدث في تونس. كل هذا شيء ومحاولة التقليل مما يحدث شيء آخر. نعلم أن هدف من يقولون بذلك هو محاولة احتواء مناخات ما قد يكون ثورة مختمرة في العقول بدت إرهاصاتها في الشارع في المظاهرات التي اجتاحت مصر كلها أمس الثلاثاء، وهو أمر يمكن تفهمه من قبل من يعتبرون أنفسهم أركان نظام لا بد أن يدافعوا عنه.
السؤال الذي نراه جديرا بالمناقشة من قبل المؤيدين والمعارضين على السواء في مصر هو: لماذا كان
لماذا لم يتوقع البعض أن يكون الدور التالي على دولة مثل باكستان مثلا أو الفلبين؟ أو إسبانيا..؟ ولو أن الدول العربية التي كثرت التحليلات بشأن توقع امتداد الثورة إليها كانت محصنة وغير هشة فلماذا القلق؟ تخيل أن يخرج علينا محلل مثلا ليقول لنا توقعوا أن تمتد ثورة الياسمين إلى الولايات المتحدة! أتصور أننا سنسخر منه ونضحك حتى نستلقي على أقفيتنا من الضحك. لا لشيء إلا لأننا سنرى ذلك ضرب من الخيال!
مؤدى ما سبق أن بيوتنا – أو بيتنا المصري أو العربي بمعنى أصح – من زجاج، وهو ما يفرض علينا تحصينه، من خلال تعلم الدرس من تجربة تونس وليس في ذلك عيبا أو أي شبهة بالحرمانية! أما محاولة اختزال ردود الفعل الانتحارية بالحرق إلى مستوى أفعال شخصية أو اضطرابات نفسية لأصحابها .. فليس سوى نوع من التبسيط .. ليس المخل فقط.. وإنما هو أشبه بالنعامة التي تخفي رأسها في الرمال حتى لا ترى الخطر الماثل أمامها. فالمنتحرون لدينا – على عكس ما يحاول البعض أن يؤكد – لديهم قضية، والإعلام بكل مستوياته عليه واجب متابعة قضاياهم عملا بالدرس الذي لا بد أن كل صحفي قد تعلمه وهو أنه إذا عضه كلب فإن ذلك ليس بخبر أما إذا عض الرجل كلبا فهذا هو الخبر.. وحوادث الانتحار حرقا ليست أقل من هذه النوعية الثانية من الأخبار. وقد يكون عزاؤنا في النهاية أن انتحار أفراد أفضل في كل الأحوال من "انتحار وطن" .. الأمر الذي نتمنى ألا نصل إليه!