تفترض الواقعية الهجومية، كما طرحها مُنظرون مثل "جون ميرشايمر" أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو، أن القوى العظمى تسعى إلى تعظيم أمنها من خلال الهيمنة… ويندرج سلوك إسرائيل تمامًا ضمن هذا المنطق من خلال: (إضعاف قدرات الخصوم استباقيًا للحفاظ على تفوقها الإقليمي).
لطالما اعتمدت عقيدتها العسكرية على استعراض القوة للحفاظ على الردع، بدءًا من ضربة عام ١٩٨١ على مفاعل "أوزيراك العراقي" وصولًا إلى قصفها موقع "الكبر السوري" عام ٢٠٠٧.
لكن طهران تقرأ من نفس السياق، فقد صمدّت لعقود في وجه العقوبات والهجمات الإلكترونية والاغتيالات، والآن، أمام الهجوم الجوي المفتوح… الدرس مرير ولكنه واضح… في عالمٍ يتسم بالانتقائية في تطبيق القانون والوعود بالخروق، تصبح القوة هي الضمانة الوحيدة… وتصبح الثقة ترفًا، وضبط النفس مخاطرة بالغة الخطورة.
كان من المفترض أن يكون الاتفاق النووي لعام ٢٠١٥، المعروف باسم خطة العمل الشاملة المشتركة، استثناءً. فقد وفّر انتعاشًا اقتصاديًا ومسارًا للعودة إلى الساحة الدولية. امتثلت طهران. أُجريت عمليات تفتيش. وقُيّد التخصيب. ومع ذلك، مزّقت الولايات المتحدة بقيادة ترامب المعاهدة بعد ثلاث سنوات فقط.
(أزمة الصواريخ الكوبية - درسٌ جيّد؟)
التاريخ لا يُعلّم فقط.. إنه يدوم. تبقى الشظايا غير مُكتملة، ومُزعجة…
في عام ١٩٦٢، خلال أزمة الصواريخ الكوبية، انقلب كل شيء... ليس لأن الرجال كانوا شجعانًا… ليس لأن الاستراتيجية سادت...ولكن.. لأن الخطوة التالية كانت بعيدة المنال، وكان الجميع يعلم ذلك. لم تنتهِ الأزمة بضجة أو إعلام، بل بوعود هادئة.
لم يدّعِ أحد النصر.. لقد تراجعوا ببساطة… أزال "السوفييت" آنذاك صواريخهم النووية التي كانت علي بُعد 60 ميلا ً تقريبا ً من ساحل فلوريدا الأمريكية .. وتعهدت الولايات المتحدة بعدم غزو كوبا… لم يُصاغ هذا الوعد رسميًا في معاهدة، ولم يُحفر في طقوس القانون الدولي... ومع ذلك، فقد صمد.
لأكثر من ستة عقود بعد الحادث، التزمت واشنطن بوعدها .. مجرد صمود هادئ لاتفاق متجذر في الخوف المتبادل والاعتراف المتبادل. إنها إحدى الحالات النادرة التي قدمت فيها قوة عظمى ضمانات حقيقية وجادة. هذا ما تسعى إليه إيران - ليس المودة- ولكن مجرد الاعتراف الأساسي بحقها في الوجود دون تهديد.
عالم لا يكون فيه ضبط النفس العسكري منحة تُقدم، بل شرط يُحترم، حيث لا يكون نزع السلاح انتحارًا، والسيادة غير قابلة للتفاوض، ولكن إذا لم تستطع الولايات المتحدة تقديم حتى ما قدمته لكوبا سابقًا - إذا لم تستطع، من خلال القانون أو البروتوكول أو التزام الأمم المتحدة، ضمان عدم إجبار إيران على الامتثال للعقوبات بالقصف - فلن يكون هناك حافز منطقي يُذكر لطهران للعودة إلى طاولة المفاوضات.
(الحسابات في بكين وموسكو)
يزداد هذا السؤال وضوحًا مع تبلور ملامح الحرب.. في يونيو2025، انقلبت ساحة الصراع بالوكالة إلى مواجهة مباشرة.. قصفت الطائرات الإسرائيلية عمق الأراضي الإيرانية.. ردت طهران بصواريخ سقطت في إسرائيل.. احترقت مدن… انفجرت مستودعات النفط.
أصبح الظل الذي طال انتظاره حقيقة… ومرة أخرى، اتجهت الأنظار شرقًا: هل ستتدخل روسيا والصين؟ .. فعلتا ما كان متوقعًا -أدانتا - لكنهما لم تتحركا كثيرًا، بعيدًا عن الكلمات.
(بكين)، المرتبطة بإيران عبر خطوط الأنابيب والعقود والاستراتيجية، لا تهتم بالعدالة بقدر اهتمامها بالتدفق... يجب أن يتحرك النفط، يجب أن يبقى "مضيق هرمز" مفتوحًا.. عدم الاستقرار يهدد بنية صعوده..
(موسكو)، الغارقة في أوكرانيا، والمدعومة بارتفاع أسعار النفط، تجد منفعة في الفوضى. كل انفجار في الخليج يصرف الانتباه عن حربها الخاصة ويرفع ثمن البقاء…
لكنها أيضًا حذرة.. لن تُختبر أي تحالفات. لن تُخاطر… لن تُضحي أيٌّ من القوتين من أجل إيران.. موقفهما ليس موقف تضامن، بل موقف حفاظ على الهدوء.. هذا ليس محورًا جديدًا، بل هو واقعية ضبط النفس، حيث يُكدّس الاستقرار ويتم الاستعانة بمصادر خارجية لتقديم التضحيات.
(النظام القائم على القواعد على حافة الهاوية)
لا تقتصر هذه الأزمة على إيران فحسب، بل تتعلق بمدى التزام الدول القوية بالنظام الذي أنشأته، كثيرًا ما يُنتقد النظام الدولي الليبرالي لنفاقه، لكن حتى الواقعيين يُجمعون على أن وجود نظام واحد أفضل من عدم وجود نظام على الإطلاق.
إذا استمرت الولايات المتحدة في تأييد الاستباق الإسرائيلي مع مطالبة إيران بالامتثال، فسيُعجّل ذلك من انهيار هذا النظام.. ستُلاحظ دول أخرى ذلك… سينتشر انتشار الأسلحة النووية... ستتلاشى فائدة المعاهدات والقانون الدولي، ولن يتمكن أي طرف، ولا حتى الولايات المتحدة، من الهيمنة إلى أجل غير مسمى.
لن تنزع إيران سلاحها دون ضمانات… إذا كانت واشنطن جادة في وقف هذا الانحدار البطيء نحو حرب إقليمية، فعليها أولاً مواجهة الحقيقة التي طالما تهربت منها، ويبدأ هذا الاعتراف بالثبات.
الولايات المتحدة نفسها التي قدمت لكوبا ضمانًا هادئًا ودائمًا، عليها الآن أن تقدم لإيران ما هو أكثر من مجرد المؤتمرات الصحفية والتهديدات... عليها أن تُطبّق الأقوال على القانون، والقانون على الأفعال... وإلا، فلن يبقى شيء للتفاوض، سوى وهم العملية بينما تتطاير الصواريخ.
ففي عالمٍ تُعلو فيه القوة صوتها فوق الوعود، وتُمزق فيه المعاهدات، وتُصبح فيه الاستباق سياسةً، لم يعد السؤال هو من يملك اليد العليا.
السؤال هو إلى متى سيتحمل هذا النظام المتداعي تناقضاته قبل أن ينهار - آخذًا معه ليس السلام فحسب، بل فكرة أن السلام كان ممكنًا في يوم من الأيام.