لعل وعسى
تناولنا فى المقالات السابقة الواقع الاقتصادى لزيارة الرئيس دونالد ترامب لبعض دول الخليج وكيف أن هذه الزيارة حملت دلالات عديدة، وأن الولايات المتحدة باتت تعول على الدور الخارجى للدول الخليجية، أو ما يعرف بلحظة الخليج من أجل الإسهام فى تحقيق الإستقرار الإقليمى والدولى. وأن الواقع يؤكد أن زيارة ترامب لثلاث دول خليجية قد أعادت اكتشاف القوة الناعمة للمال العربى، على غرار ما حدث بعد حرب أكتوبر 73 بسلاح البترول.وانه إذا كان فى العقود السابقة قد تم تقسيم الوطن العربى من المحيط إلى الخليج العربى، وتدشين أنظمة سياسية قريبة من الغرب،هذه الظروف تغيرت الآن، وأصبح العالم العربى يشهد حاليًا درجة عالية من الإستواء الإجتماعى والإقتصادى والتى لم تكن متوافرة فى حقبة الخمسينات والستينات حيث كان التفاوت الحضارى والإجتماعى فى الأقطار العربية يقف حجر عثرة أمام عملية التوحيد. وبالتالى عززت الدخول النفطية من تحقيق مستويات عالية من التطور الاقتصادى والتطوير المؤسس. لذا فإن تقييم صفقات ترامب مع دول الخليج يحتاج إلى تسليط الضوء على أن الفكرة العامة ما هى إلا توظيف رؤوس أموال خليجية فى استثمارات أمريكية ضخمة، بعضها فى مجال الذكاء الاصطناعى، تحت عنوان توطين التكنولوجيا خليجيًا، من أجل كسب السباق مع الصين. ولكن الأهم من وجهة نظرنا هو المشهد الذى تمثل فى وضع شاحنة ماكدونالدز أمام القصر الملكى السعودي، وهو أمر قد يشار إليه على أنه رسالة رمزية لدمج الثقافة الشعبية الأمريكية مع الطقوس العربية.ولكن فى المقابل يجب أن ندرك أن قادة دول الخليج يمتلكون النفوذ اللازم لتصحيح مسار ترامب، فهو يعتمد عليهم بدرجة غير مسبوقة، أكثر بكثير من اعتماده على أوروبا، ولكنه يواجه بانتقادات شديدة مجملها هو تساهله مع الأنظمة الاستبدادية، فى سبيل تحقيق مكاسب اقتصادية. ولكنه فى النهاية لا يخدم المصالح الإستراتيجية المشتركة بين الولايات المتحدة وإسرائيل خاصة وان الأخيرة تسعى منذ عقود باتجاه تقسيم سوريا إلى دويلات مذهبية وإثنية متناحرة. بيد أن ترامب اختار الانحياز إلى رؤية الدول الثلاث التى تؤمن بأن إعادة إعمار سوريا ضرورة لإستقرار الشرق الأوسط، وأنها ستفتح آفاقا واسعة للتجارة والاستثمار. ولكنه من وجهة نظرنا أن الولايات المتحدة تهدف على الأرجح إلى شرق أوسط بلا جماعات مسلحة، يتقلص فيه نفوذ بعض الجماعات المسلحة غير الحكومية، والهدف الإستراتيجى من ذلك هو تهيئة الشرق الأوسط ليكون معبرًا وممرا لخطوط التجارة العالمية، حتى ولو كان على حساب البيئة بدليل صفقات الأسلحة والإتفاقيات النفطية التى أبرمت خلال الجولة، والتى تعكس اعتمادًا متزايدًا على الوقود الأحفورى، وهو ما يتناقض مع خطط بعض دول الخليج المعلنة للتحول إلى الطاقة البديلة. وهذا التناقض قد يكشف صراعًا داخليًا بين استراتيجيات الربح السريع وطموحات التنمية المستدامة. وبالتالى فإن ما نؤكد عليه أن جولة ترامب ليست مجرد زيارة سياسية، بل هى مرآة تعكس توجهات السياسة الخارجية الأمريكية التى تعتمد على الاقتصاد كوسيلة رئيسية لبناء التحالفات. وهو ما سنتناوله فى المقال القادم إن شاء الله.
رئيس المنتدى الإستراتيجى للتنمية والسلام