عصف فكري
فى أرشيفى الصحفى نسخة من جريدة الأخبار المصرية فى الخامس من مايو سنة 1968 ومانشيتها الرئيس يقول «بيان رسمى من البابا كيرلس الخامس يعلن: ظهور العذراء فى كنيسة الزيتون» وأسفله عناوين أخرى تقول «آلاف المواطنين من مختلف الأديان والطوائف قرروا بيقين رؤية العذراء واتفق وصفهم بشهادات جماعية.. العذراء ظهرت فى ليال مختلفة، وأشكال مختلفة وكانت تتحرك وتمشى وتواجه المشاهدين وتباركهم وتشفيهم». وفى متن الخبر نقرأ أن ظهور العذراء بدأ يوم 2 أبريل 1968، وأنها سبق وظهرت ثلاث مرات فى العالم. وفى تفاصيل الخبر نعرف أن اثنين يعملان فى ورشة إصلاح سيارات فى الزيتون (مسلمي الديانة) اتصلا بالشرطة لأنهما رأيا سيدة ترتدى ملابس بيضاء فوق الكنيسة وتصوروا أن هناك راهبة تحاول الانتحار. وعندما حضرت الشرطة تجمع الناس فرأوا نورًا مبهرًا فوق الكنيسة، وقال حارس الأمن فيها إن هذا النور يمثل السيدة العذراء. وتكررت الواقعة بعد اسبوع ما دفع الكنيسة أن تشكل لجنة لبحث الأمر ودراسته. وتجمع المئات ثم الآلاف للتيقن والمشاهدة وعلى رأسهم الوزراء والمسئولون وأقر كثير منهم بذلك، وكتبت الصحف والمجلات قصصًا وروايات عديدة وصلت إلى حد القول بشفاء كل من شاهد العذراء، وصنعت أفلامًا لتوثق هذا الحدث الخارق. ومن جانبهم حاول رجال الدين تفسير المعجزة تاريخيًا وربطها بأهمية مصر فى التراث القبطى، وبمدلول مباركة السيدة العذراء للأرض الطيبة. ولم يقبل الرأى العام تساؤلات وأطروحات منطقية بشأن المعجزة، كما لم يقبل محاولات تفسير الظاهرة علميا بالقول بأن الوهج الضوئى كان يعبر عن ظاهرة فيزيائية لها علاقة بالطقس.
فى ذلك الوقت تحديدًا، كان الحزن عنوان عام فى مصر. انكسار تام لدى الجميع، إحباطات تحيط بإحباطات، وشعور مكتوم بالغضب تجاه ولاة الأمر. فقبل أقل من عام واحد تعرضت مصر بل العالم العربى كله لهزيمة قاسية من دولة صغيرة، حديثة الولادة، فى حرب خاطفة، كشفت عورات دول عربية عرف قادتها بالصوت الزاعق، والشعارات الرنانة. كانت هزيمة يونيو علامة فارقة بين محطتى الحلم والواقع، ففى ستة أيام فقط خسرت مصر سيناء، وخسرت سوريا الجولان، وفقدت الأردن الضفة الغربية، ثم فقد العرب جميعًا القدس الشريف.
لم يُفكر أحد أن هناك ضرورة لبث روح إيقاظ واستنهاض همم ولو بالكذب والخداع. ربما كانت القصة كلها تلفيقًا مُتقنًا كما يقول كثير من الباحثين الأقباط اليوم. لكن بعيدا عن الواقعة ذاتها، فإن أهم ما تُدلل عليه هو أن الناس فى أوقات المحن يكونون دائمًا على استعداد تام لتقبل الخوارق والمعجزات. فالحسابات الواقعية لا تمنح الأمل فى الانتصار لذا يصبح الأمر كله مربوطًا بالسماء.
<<<
تبدو المعجزات حلًا سحريًا لمشكلات العصر العويصة. كسر قوانين الطبيعة هو منطق المستسهلين المتعجلين الكسالى الذين يسألون الله النصر وهم قاعدون، جامدون، فاسدون، ولا يحركون ساكنًا.
فى الأوقات العصيبة لا علم ولا عقل. فالسيطرة على عقول العوام والتى فى الأغلب منها عقول خاوية، اعتادت التلقى، والتسليم سهل من خلال حكايات مُدهشة.
تُدرك السلطات القائمة ومحركو الأحداث ذلك فيلجأون إليه كثيرا، وربما كانت حكاية الحشرات العجيبة التى ظهرت فى العراق إبان التجهز الأمريكى لغزوه سنة 2003 حلقة فى ذلك.
حكى لى صديق عراقى شهد الغزو أن قصصًا عديدة كررت ذكر ظهور حشرات قاتلة تقف بالأسراب فى طريق القوات الأمريكية استعدادًا للانقضاض عليها. لم تكن الشائعات وحدها هى الغريبة، لكن الأغرب أن دعاة دين وصحفيين عراقيين كتبوا عن معجزات الإيمان التى تتكرر مع الشعب التقى، لتصف الحشرات القاتلة بالطير الأبابيل، وكأن المعجزة الدينية الخاصة بالبيت الحرام تتكرر مرة أخرى فى ظل وجود قائد عظيم ومصلح نادر هو صدام حسين.
<<<
حاربت الأديان السماوية جميعها الخرافات. كشفت السحرة، ونددت باللجوء إليهم. دعت إلى التدبر والتفكر وتحكيم العقل فى كثير من الأمور، وبينت أن التوكل على الله وتسليم الأمر له لا يعنى أبدًا انتظار لخروقات للقوانين الطبيعية، والسكون وعدم الأخذ بالأسباب. وفى سيرة النبى (ص) تعلمنا معركة أحد أن الحق وحده ليس سببًا للنصر، وأنه يجب الاعداد والتجهز والعمل.
ورغم ذلك، فقد ألصق بعض المتاجرين بالأديان خرافات عديدة عند تفسيراتهم للدين، وابتدعوا قدرات خارقة لبعض الرهبان فى المسيحية، وبعض الصالحين فى الإسلام، حتى أن البعض تصور إمكانية شفاء أمراض مستعصية بمسح الرأس أو الإمساك بباب، وصدق العامة وآمنوا وأيقنوا ببركة أولياء الله الصالحين.
وهكذا نُحّى العلم تمامًا من حسابات العامة. والمؤسف أنه استبعد من حسابات الدول والقادة، كسبًا للتعاطف الشعبى.
كانت أوروبا قبل بضعة قرون تعيش التعاسة ذاتها، لكن ميلاد المنهج التجريبى، واقتفاء العقل أولد فكرة «السببية». يقول الدكتور عبدالمحسن صالح فى كتابه «الإنسان الحائر بين العلم والخرافة» «إن البشرية استندت رؤية خرافية فى تفسير أحداث الكون، إلى أن بدأ الإنسان رحلته الشاقة والطويلة لاستكشاف العلل الحقيقية التى تكمن وراء الأحداث. لكن الغريب أن الإنسان المعاصر الذى قطع أشواطًا بعيدة من هذه الرحلة نحو حضارة وتفكير يقومان على منطق «السببية» الذى يفسر الظواهر الطبيعية والبشرية منطلقًا من أرضية البحث التجريبى، هذا الإنسان لا يزال يحمل فوق كاهله طبقات متراكمة من آثار تفكيره الخرافى فى الحقب السابقة، فغدًا يقف فى مفترق طريقين للتفكير، أحدهما يجذبه إلى إعمال العقل، والآخر يغريه بالنكوص إلى مراحل الطفولة الإنسانية بما تلازم معها من تفسير عشوائى للظواهر.
ويضيف المؤلف «إن العجز المرحلى للعلم عن تفسير بعض ظواهر الكون لا يعنى أن نندفع إلى الخرافة قفزًا على قواعد التفكير السليم التى أثبتت قدرتها على تحقيق إنجازات هائلة انتقلت بالبشرية نقلة نوعية حاسمة، وبدلًا من ذلك فإن علينا مواصلة البحث العلمى وتشجيعه لنستكمل رحلة الإنسان إلى عالم المستقبل وليس إلى غيابه الماضى».
والله أعلم