رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

عصف فكرى

لافتاتان أمقتهما لما يُمارسه من يرفعهما من وصاية على بنى البشر هما: التخوين والتكفير.

أما الأولى فيرفعها الأوصياء على الوطن ـ سواء انتموا إلى السلطة أو خصومها- ويحكمون بخيانة مَن يخالفهم فى الرأى أو يُحاججهم فى الفكر أو يتوقف ليُفكر فيما قرروا أو طرحوا من مواقف.

وأما الثانية فيرفعها أدعياء امتلاك اليقين الديني، الذين يحسبون أنفسهم رجال الله، يحملون رايته، ويفهمون مراده، ويطردون مَن شاءوا من رحمته، حاكمين عليهم بالعذاب الأبدى.

ولاشك أن التكفير أخطر من التخوين، لأنه يحمل فى توابعه حكما بالإعدام ضد صاحبه الذى صار مستباحا باعتباره عدوا للخالق.

وقد مُنيت أمتنا على مدى تاريخها بصنوف من المكفرين الذين رموا غيرهم بالكفر لأدنى الإشارات، وإن كانت العقود الأخيرة قد شهدت فيضانا فى التكفير فاق كل حد، خاصة بعد أن مزج الانتهازيون بين الدين والسياسة، فصاروا كيانا واحدا يستحيل فصله.

ولاشك أن فكرة التكفير والتى اتسعت عربيا بتدوين الشقيقين محمد وسيد قطب إطارها الفكرى فى منتصف القرن العشرين وتوسيع نطاقها لاحقا، عبر كُتب شهيرة أبرزها «هل نحن مسلمون؟» و«جاهلية القرن العشرين» للأول، و«معالم فى الطريق»، و«الإسلام والسلام العالمي» للثاني، أصبحت الآن سمة لصيقة بالخطاب الإسلامى المعاصر.

لذا صار من اللازم لأى طرح متأسلم فى الدول العربية والإسلامية فى الآونة الأخيرة أن يتضمن إشارة واضحة إلى انحراف الآخرين عن منهج الله، وتأويل النصوص والأفكار والرؤى المنطرحة من المفكرين باعتبارها مؤامرات غربية ضد الإسلام.

وهكذا لا يكاد الخطاب الإسلامى المعاصر يخلو من إتهامات دائمة للآخرين، ونبرات تحريض ضدهم، مقرونة بإساءة ظن مُتعمدة، وتشكيك غير منطقي، وتشويه قاصم لأفكار الحداثة تحت وهم أن تلك الأفكار جميعا ضد الدين نفسه.

وربما نجد أن أشهر مثال يُمكن الرجوع إليه فى هذا الشأن هو تسجيل قديم لبرنامج الاتجاه المعاكس على قناة الجزيرة يعود لمنتصف التسعينات، يستضيف المرحومين الدكتور نصر حامد أبوزيد، والدكتور محمد عمارة، حيث يحاول الثانى دوما اقتطاع التفسيرات من كلام الأول ليتهمه بالخروج من الملة، بينما يكرر الأول صد الاتهامات بإعلان الشهادتين وتأكيد إيمانه مرة تلو الأخرى، وكأن الدكتور محمد عمارة مُكلف من قبل الله بالتفتيش فى قلوب البشر وامتحانهم ليثبتوا إسلامهم.

وهذا الموقف شهدنا ما يشبهه كثيرا على مدى العقود الثلاث الماضية فى مختلف وسائل الإعلام العربية، ليُصبح توجها عاما لمَن يقدمون أنفسهم ممثلين للخطاب الإسلاموي، فهم دوما يسيئون الظن بالآخرين، فيتهمونهم ويتهمونهم بعيدا عن أى سماحة مفترضة.

وقبل أيام قليلة قرأت لكاتب مصرى معروف بتبنيه للخطاب الإسلاموي، هو محمود سلطان كتابا ضخما تقترب عدد صفحاته من خمسمئة صفحة، صدر سنة 2020 بالقاهرة عن دار «شمس» للنشر، وهى من الدور المعتدلة متنوعة الإصدارات، تحت عنوان «الدين والتراث والهوية... توثيق مائة عام من المعارك الفكرية فى مصر».

ورغم عمومية عنوان الكتاب، فإنه تضمن خطابا معروفا وممنهجا للتيار الدينى فى مصر يحمل من سوء الظن، وتعمد لى أعناق النصوص وتأويلها قدرا بالغا من الجهد ليصم كافة رموز الحداثة والمدنية فى مصر بالانحراف عن صحيح الإسلام والتبعية للغرب.

والمؤسف مثلا أن يحمل المؤلف على قامات وقيم عظيمة تحت اتهام ضرب ثوابت الدين، فيُقدم فيما يقدمه نقدا متأخرا لكتاب الشيخ على عبد الرازق الشهير «الإسلام وأصول الحكم» الذى أثبت فيه بدلالات مرجحة أن الخلافة كنظام حكم ليست من أساسيات الإسلام.

ثم يعرج على مفكر مصر العظيم طه حسين ويُجدد إتهامه بالتبعية للغرب فيما طرحه فى كتابه عن الشعر الجاهلى ثم سائر مؤلفاته، ويعتبر كل مَن دافع عنه من أصحاب العقول العلمانية المناهضة للإسلام.

ورغم أن هذه الموضوعات القديمة قُتلت بحثا، ورغم أن أصحابها رحلوا عن دنيانا، ورغم أن ساحاتهم بُرئت، واعتبرت اطروحاتهم مقبولة، وممكنة الطرح فى العموم تصورات و اجتهادات فكرية يُمكن النظر إليها بُحسن نية، إلا أن الرغبة فى تشوية رموز الحداثة دفعت الكاتب الإسلاموى إلى ممارسة التحريض ضدهم بأثر رجعى.

ولا يفوت الكاتب الفرصة لُيعيد اتهام محمد خلف الله، توفيق الحكيم، وصلاح عبد الصبور، ونصر حامد أبو زيد، وأمل دنقل، وآخرين بالإساءة للدين وثوابته، استنادا لنصوص أدبية أو خيالية أو كتابات أخرى تحتمل التأويل.

وربما يعد أبرز مثال على ذلك إشارته لقصيدة أمل دنقل الشهيرة «كلمات سبارتكوس الأخيرة» التى يقول فيها : «المجد للشيطان معبود الرياح/ من قال لا فى وجه من قالوا نعم». إذ يعتبر الكاتب أن ذلك نوعا من التجرؤ على الله لا حدود له، لأن شاعرا استخدم رمز الشيطان كإشارة للقول الآخر أو المعارضة السياسية.

وبالمنطق ذاته، يحكم مؤلف الكتاب على الشاعر الراحل صلاح عبد الصبور بعدائه الشديد مع الله بسبب رمزيات فى بعض قصائده. وكأن الرجل شق قلب الشاعر، الذى يقوم فنه على الخيال والرموز ويتعامل بالخيال، واكتشف كونه عدوا صريحا لله عز وجل، وجدد تكفيره.

وكل هذا يثير تساؤلات أخلاقية حول اصطياد المتكلمين والمفكرين بأثر رجعى.أى سطو على السماء فى مثل هذه الطروحات، وما قيمة إعادة بعث اتهامات قديمة لمفكرين عظام سوى تشويههم؟ ولم لا ينظر أصحاب الخطاب الإسلاموى المعاصر بحسن نية للمبدعين كما يُفترض بالمتدينين السمحاء؟؟

إن مفكرا ومصلحا عظيما لم ننتفع بعد بعلمه مثل الشيخ محمد عبده كان يقول : «إذا صدر قول قائل يحتمل الكفر من مئة وجه ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حُمل على الإيمان لا على الكفر». وهذا هو ما تقتضيه أخلاق المتدينين.

لكن سمات الخطاب الإسلاموى المعاصر واحدة، فجميع مَن هُم فى الضفة الأخرى من المناهضين لهم، هُم مُناهضون للدين نفسه.

وهذا رجل الجماعات الإسلامية الشهير هانى السباعى والمقيم فى لندن يصدر طبعة جديدة من كتاب بالغ الشذوذ يحمل عنوان «دور رفاعة الطهطاوى فى تخريب الهوية الإسلامية». وينحو الرجل منهجا تحريضيا سيء الظن تجاه جهد واجتهاد ومسيرة الشيخ رفاعة وسعية لنقل المعارف والعلوم الغربية الأوروبية إلى بلاد العرب، وسعيه لزرع بذور الحداثة فى بلادنا.

بل إن «الطهطاوي» مُجرم عتيد فى نظره لأنه صاغ بكتاباته المبكرة فكرة «الوطن» واعتبرها أساسا حاكما للناس فى مصر، وهو ما أهل المفكرين والشعراء والساسة للحديث عن مصر باعتبارها وطنا ينتمون إليه رغم أنها مكان سكن فقط.

والمؤسف أن نقرأ فى كتابه قائمة إتهامات لرفاعة الطهطاوى تتضمن أنه أدخل العلمانية إلى مصر، واعتبر الدولة غير الدينية النموذج الأفضل للنهضة، وأنه خدع الناس بالقول بأن العمل بالقوانين الوضعية ممكن وجائز، وتأكيده على أن سفور المرأة لا يدل على انحطاط المجتمع، وقبوله بالاختلاط ورضاه عن الفنون. ثم يقول وهكذا نجح الرجل فى تخريب الهوية الإسلامية!

ورغم ركاكة الفكرة وسطحية صياغتها فإنها تُذكرنا بحملات شبيهة سبق شاهدناها كان عمودها الأهم هو سوء الظن بالآخرين واستسهال تلفيق الاتهامات لهم، والاستهانة بوضعهم فى مواجهة مع الدين أو مع الله عز وجل.

وكل هذا إرهاب فكرى لا اختلاف رأي، لأنه لا يحكم على الآخرين بالخطأ فقط، وإنما يشطط فى تصويرهم كبغاة ضد الدين وأعداء له.

وحسبنا أن نقول لمَن يخطون خطواتهم الأولى فى عوالم المعرفة: اختبروا عقولكم ولا تُسيروا طائعين خلف الآخرين، فليس كل صاحب قول على صواب، وليس كل مُدُعٍ على حق.

والله أعلم

[email protected]