رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

د. عبدالراضى عبدالمحسن عميد كلية دارالعلوم السابق:

الإسلام لا يعادى العلم والمدنية

عبدالراضى عبدالمحسن عميد كلية دارالعلوم السابق
عبدالراضى عبدالمحسن عميد كلية دارالعلوم السابق

تيارات الإسلام السياسى اتخذت الدين مصيدة للدنيا ووسيلة للسلطة

 

الدكتور عبدالراضى عبدالمحسن عميد كلية دار العلوم السابق بجامعة القاهرة أحد المفكرين الإصلاحيين الذين يحملون لواء صلاح وتجديد الفكر الدينى والمجتمعى والمهموم بقضايا وطنه وأمته، عرفته العديد من الجامعات العربية والأوروبية خاصة جامعات ألمانيا، وهو أول متخصص فى ترجمة القرآن الكريم للغة الألمانية بين دارسى الفلسفة والعلوم الإسلامية بجامعة القاهرة، فهو يجيد اللغتين الألمانية والإنجليزية كتابة ونطقًا، عمل مستشارًا علميا للسيرة النبوية ودراساتها المعاصرة بجامعة الملك سعود بالسعودية، كما عمل مستشارًا علميًا للهيئة العالمية للتعريف بالنبى صلى الله عليه وسلم ونصرته برابطة العالم الإسلامى فى مكة المكرمة، وهو صاحب أول دكتوراه فى علم مقارنة الأديان، وكانت بعنوان» النبوة بين اليهودية والنصرانية والإسلام» وحصل عليها من جامعة بامبرج الألمانية بالاشتراك مع جامعة القاهرة.

نال»عبدالمحسن» العديد من عضويات الجمعيات العلمية والهيئات الدولية، كما قدم للمكتبة الإسلامية نتاجًا علميًا ضخمًا، فمن الكتب» منهج أهل السنة والجماعة فى الرد على النصارى» و»الأخلاق بين النظرية والتطبيق» و»نبى الإسلام بين الحقيقة والادعاء» و»الغارة على القرآن الكريم» و» والمعتقدات الدينية لدى الغرب» و»مشكلة التأليه فى فكر الهند الدينى» و»ماذا يريد الغرب من القرآن» و» محمد صلى الله عليه وسلم فى أدبيات الغرب» و» الرسول الأعظم فى مرآة الغرب»، فلم يتوقف عطاؤه العلمى، ومازال لديه الكثير الذى يسعى لتقديمه إلى المكتبة الإسلامية خدمة للفكر الإسلامى. «الوفد» التقت المفكر الإسلامى الدكتور عبدالراضى عبدالمحسن عميد كلية دار العلوم السابق ليدور الحديث معه حول قضايا عدة أبرزها الإجابة عن السؤال الأخطر وهو لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم، ليستفيض برؤاه العلمية والفلسفية والدينية فى هذا المضمار إلى جانب العديد من القضايا الأخرى، وهذا نص الحوار.

 

تجديد الخطاب الدينى عملية معقدة تحتاج إلى جهود مؤسسية وليست فردية

 

● بداية.. هناك سؤال مؤلم يستدعى ضرورة استعادة الوعى بإشكالية التخلف الحضارى للعالم الإسلامى وهو: كيف السبيل إلى النهضة؟ ومن أين نبدأ؟ ومَنْ يبدأ؟ وما المطلوب الحتمى اللازم لتلك البداية؟

●● إن حل تلك الإشكالية المستعصية وتقديم الجواب على تلك الأسئلة الوجودية يأتى من خلال خمسة محاورهى: أولا- أهمية الإشكالية ومخاطر تراجع الاهتمام بها، رغم عدم اختلاف الحال الذى فرض تلك الإشكالية بمطلع القرن التاسع عشر الميلادى. بل إن الفجوة الحضارية بيننا وبين الآخر قد زادت بقدر سنوات ضوئية، وعدم الاستغناء عنه والاعتماد عليه قد زاد زيادة هائلة. فقد أصبحنا سوقًا استهلاكيًا عملاقًا لمنتجاته ومخترعاته التى لا تتوقف بينما لا يتوقف إبهارنا بها وعجزنا عن مجاراتها إلا كمجرد مستهلكين لكن بعيدون عن أسرارها وتصنيعها فنحن ضيوف على الهواتف الذكية وبرمجياتها وتقنياتها نحملها بأيادينا بعناية لكن لانمتلك شيئاً من دواخلها ومقدراتها وهلم جرا بقية المخترعات. وحالنا كحال صياد السمك الذى يلقى بسنارته فى النهر ينتظر ما يَمُنّ النهر عليه به دون أن يختار ودون أن يدرك مكنونات النهر وثرواته وما تضمه أعماقه.

ثانيًا: تاريخ الإشكالية، فقد بدأ طرح الإشكالية كمعضلة حضارية تستلزم الحل بمشروع إصلاح الشرق لدى جمال الدين الأفغانى والإمام محمد عبده عندما تعرضا لسبل البعث والنهوض، وعندما قام محمد عبده يرد على افتراءات المستشرقين ضد الإسلام، مبرهنا على أن الإسلام لا يعادى العلم أو المدنية؟ لكن عبدالله النديم هو مَنْ صاغ سؤال الإشكالية لأول مرة بجريدة ( الأستاذ) عام ١٨٨٢م: (بما تقدموا وتأخرنا والخلق واحد؟) ثم تلاه شكيب أرسلان ١٩٣٩ م بصياغة سؤال الإشكالية الآنى المألوف لدينا والقائم حتى اليوم : لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟

وقد حاول الإصلاحى خير الدين التونسى من خلال تجربته الشخصية تلخيص الحل فى إحياء فكرة الأصالة والتوظيف المنهجى للعقل إلى جانب الإفادة من المنتج الحضارى الغربى.

ثم جاء مالك بن نبى ليتوسع فى بحث مشكلة الحضارة وأسباب النهوض ويقدم لنا رؤيته فى حل المعضلة من خلال إصلاح أبعاد العلاقة التلازمية الثلاثية بين (الإنسان – التراب – الزمن).

وعندما جاء البنا والإخوان طرحوا الإشكالية لخدمة أيديولوجية جاهلية المجتمع الذى غاب عنه الدين فغاب التقدم لكى يربطوا النهضة والتقدم بعودة الدين كما يرونه بعد أن تزول عنه الجاهلية كما يرونها، وبالتالى فإن المرجعية الوحيدة فى الحكم بالجاهلية على المجتمع أو رفعها ثم الحكم بالتقدم تكون بأيديهم.

ولا يختلف الأمر كثيرا مع أبى الحسن الندوى فى طرحه سؤال التخلف والانحطاط الحضارى بكتابه (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟) ثم عرض الجابرى وحسن حنفى فى مشروعيهما العقل النقدى حلا للإشكالية.

●.. وماذا عن أهم اتجاهات الرؤى التى تناولت تلك الإشكالية؟

●● تعددت الاتجاهات والرؤى التى تصدت لعرض الإشكالية والتماس مخرج لها، لكن تلخصت تلك الاتجاهات فى اتجاهين: الأول : القراءة التاريخية لمحاولة تفسير الهبوط من قمة السلم الحضارى إلى هاوية نفق التخلف المظلم.

أصبحنا سوقًا استهلاكية للغرب ومنتجاته ومخترعاته

 

الثانى: البحث فى أسباب التقدم، وموانع الأخذ بها، وآليات تفعيلها، وتقديم التصورات اللازمة عمليًا. وهذه الاتجاهات محكومة برؤيتين ومنظورين لتفسير ما ورائيات مسألة التخلف الحضارى، والتماس سُبُل الانطلاق نحو طريق النهضة والتقدم :

المنظور الأول: نظرية المؤامرة الضاربة فى عمق التاريخ بدءًا بيهودية عبدالله بن سبأ والمجوسية والهندوسية، مرورا بالحروب الصليبية والاستعمار الغربى للعالم الإسلامى، وانتهاء بالحصار الآنى للحيلولة دون امتلاك ناصية التكنولوجيا والتقنية والحاسبات وأسرار الذرة ودقائق الصناعات.

المنظور الثاني: جْلْد الذات وإلقاء التبعة على قعود المسلمين عن القيام بأعباء ومتطلبات النهضة وشروطها بعد التفريط فيما كانوا عليه من تقدم ورقى استحقاقا لمقولة أم أبى عبدالله الصغير أخر ملوك غرناطة له: (لا تبك مثل النساء ملكا لم تحافظ عليه مثل الرجال).

● وما أهم أسباب التخلف الحضارى لدى المسلمين؟

●● هى أسباب عديدة ومركبة ومتداخلة يمكن الإشارة إلى أهمها: الجحود الذى تعانيه الأمة نحو الدين سواء من العلمانية أم المتدينين على حد سواء والذى يتمحور فى مظهرين أولهما : الشكلية، حيث ينحى العلمانيون الدين جانبا عن حياة الإنسان، ويقوم المتدينون عمليا بذلك عندما يقتصرون على الأداء الظاهرى للطقوس والمشاعر دون إعمال قيمها ولا الأخذ بأخلاقياتها ومقاصدها الرامية إلى الإتقان والتجويد والإخلاص وبذل غاية الوسع والجهد.

الثانى: إقحام الدين سلبًا وإيجابا فى الموضوع الواحد فيظهرونه سببًا للتناقض والاختلاف والمنافرة.

ثانيًا: الجمود على التفسيرات الماضوية والاختيارات والأحكام الفقهية الظرفية مثل:(طباعة المصحف الشريف الذى لم يتم السماح به إلا بعد جدل وصراع عنيف– معركة تحريم القهوة – الإفتاء بعدم جواز الوضوء من ماء الحنفية – اللاسلكى – الموقف من تولى المرأة المسؤولية)...إلخ.

ثالثًا: الافتراق وصراع الطوائف والمذاهب فى معركة التكفير بمراحله (التنفير- التكفير- التفجير)،  الذى بدأ بتأسيس الدول الطائفية والمذهبية كان نتيجتها اتخاذ الدين مصيدة للدنيا ومهنة ووسيلة للسلطة والتسلط وصيرورته كما قال فيه قرطبة الفيلسوف أبو الوليد ابن رشد «التجارة بالأديان هى الرائجة فى المجتمعات التى ينتشر فيها الجهل، فإن أردتَ أن تتحكم فى جاهل فعليك أن تُغلف له الباطل بغلاف ديني».

الإخوان ربطوا النهضة والتقدم بعودة الدين لخدمة أيديولوجيتهم

 

ومن هنا انطلقت بداية الخوارج، القدرية، الحشاشين، تيارات الإسلام السياسى، وأسهمت الدولة العثمانية بقدر كبير فى التسلط على الولايات العربية وتفريغها من ثرواتها وقدراتها وتخلفها لصالح مركزيتها فى أسطنبول.

رابعًا: فساد الأخلاق بانتشار الغش والكذب وغياب إتقان العمل والإخلاص والمراقبة بحيث أصبحنا نبحث عن المنتج الأجنبى والأبحاث والدراسات الأجنبية والدواء والعلاج والتعليم.. وغياب الوعى بمشروع النهضة الحضارى وأهميته وآلياته وضروراته. وعدم وضوح الهوية الدافعة للتقدم والموجِّهة لمساراته، وتذبذب وُجْهة تلك الهوية والتنازع حولها. و الهزيمة النفسية أمام الغرب المتقدم والإحساس بالدونية والتدنى. وثقافة التفاهة ( التبرع والإنفاق بالمليارات على كرة القدم دون وجود وقفيات على العلماء ومؤسسات التعليم والبحث العلمى )، ثقافة الثراء السريع بالتحايل دون إنتاج أو عمل حقيقى. وتراجع التفكير العقلى ودور المنهجية العقلية فى حياتنا الثقافية والاجتماعية والتربوية.

● وهل للتقدم مقومات وعوامل أخرى؟

●● نعم.. وأهمها حتمية إصلاح النظام التعليمى ودعم البحث العلمى. ومجرد مقارنة بسيطة بين حجم الإنفاق الإسرائيلى على التعليم والبحث العلمى وبين حجم إنفاق الدول العربية مجتمعة ستبدو الكارثة بوضوح: مجموع الإنفاق العربى على التعليم لا يتجاوز ٢ % من الدخل القومى بينما، مجموع الإنفاق الإسرائيلى على التعليم 8.4٪ من الدخل القومى، مجموع الإنفاق الإسرائيلى على البحث العلمى 4.7٪، بمعدل 1111 دولارًا للفرد سنويًا، بينما 4 دولارات هى معدل الإنفاق على البحث للفرد العربى. لذلك جاءت نتائج معدل الإنفاق مرعبة: إذ تم نشر 1395 بحثًا لكل مليون مواطن إسرائيلى، بينما تم نشر 37 بحثًا لكل مليون مواطن عربى.

ثانيًا: العناية والاهتمام بالترجمة العلمية والفكرية وعدم الاقتصار على الترجمة من حقل الفنون والآداب. والقضاء على الأمية التى بلغت 50٪ بالعالم الإسلامى فى الوقت الذى هم أمة اقرأ وبكتابهم 750 آية تحث على العلم والعقل، ونشر الوعى لأن الأزمة أزمة ثقافة وفكر قبل أن تكون سياسة ومجتمع.

● وهل للوعى دور فى هزيمة التخلف والافتكاك منه وهزيمة اليأس الذى يمكن أن يكون قد استقر فى النفوس إزاءه؟ وإن كان للوعى دور فى ذلك فمَن الذى يتولى التوعية ويقوم بهذا الواجب : أهو دور الأفراد أم النُخب أم المؤسسات؟

●● الحقيقة أنه واجب مجتمعى ملزم أخلاقيا وفكريا للمجتمع المدنى بأفراده ونُخبه وهيئاته، وكذلك ملزم وجوديا للمؤسسات الرسمية علمية وتعليمية وثقافية وإعلامية ودينية.

القرآن والسنة أصول مقدسة.. والتراث قابل لإعادة النظر

 

وبما أن النخب والأفراد لم تفتأ تقوم بهذا الواجب منذ فرض سؤال التخلف نفسه على الواقع، فإنَّ الأنظار باتت تلتفت الآن إلى المؤسسات وما الذى يجب أو يمكن أن تقدمه؟ وحيث إن دور المؤسسات الدينية والثقافية والتعليمية فى صناعة الوعى الرشيد. ربما تكون الشخصية المصرية هى المفتاح الأمثل له نظرا لتاريخ تلك الشخصية الطويل فى بناء الإنسان أخلاقيا ودينيا وفكريا ووطنيا للإسهام فى تشييد أعرق حضارة عرفها الإنسان مرورا بتاريخه الطويل فى استيعاب الحضارات والديانات الأُخر وتشييد وطن جامع يقوم بمهمة الرباط الحارس والحامى لمنجزات الوطن والأمة العربية إلى أن تقوم الساعة. وكذلك لأن هذه الشخصية قد عايشت المؤسسات العريقة ذات التاريخ والعناية الكبرى بصناعة الوعى. ويأتى الأزهر الشريف فى مقدمة تلك المؤسسات ومعه دارالعلوم التى أسسها على مبارك باشا ١٨٧١ م لتجمع بين الأصالة والمعاصرة ثم تأتى وزارات الثقافة والتعليم والأوقاف.

ومن خلال هذه المؤسسات يتم التصدى لما نعايشه من حملات مسنونة موجهة تستلزم الكشف عن طبائع الوعى الزائف الكامن خلفها وأنه ليس محصورا فيما يُكتب أو يُقال بخلاف الحقيقة وضد العقل والبداهة والمسلّمات والمعلوم من الدين بالضرورة، وذلك بهدف إقصاء الوعى الرشيد والفهم الصحيح لقضايا الإيمان والأديان والأوطان، وإحلال التصورات والمفاهيم الخاطئة لأجل تحقيق الأجندات الخاصة والتوجهات الحزبية والمذهبية النفعية والمِلّية أو الطائفية العنصرية.

وإنما الوعى الزائف يتضمن كذلك إثارة الشكوك والشبهات وإلقاء الأباطيل والشبهات على الرموز والقيادات والأئمة والقامات ذات الدور الريادى التأسيسى أو الإصلاحى أو التوجيهى فى محاولة لإحداث القطيعة النفسية والشعورية والفكرية معها وتشويهها لنزع المهابة عنها وتفريغ إسهامها الفكرى والدينى والعلمى والثقافى والحضارى من قيمته والحيلولة دون نفاذه إلى جمهور المتلقين وإبطال تأثيرهم الروحى والعقلى الناتج عن القناعة والاقتناع اللذين تتولَّد عنهما رابطة شعورية وعقلية لها الدور الأكبر فى الإصلاح والتنوير الأخلاقى ومكافحة التخلف.

فالأزهر بعد أن تخلَّص من تراكمات النشأة والمولد بانتقال حكم مصر إلى السلطان الناصر صلاح الدين، قد غدا بيت الحكمة المصرى وحاوى خلاصة تجارب المصريين ومعارفهم وعلومهم، فتماهى مع المصريين فكرًا ونهجًا، فبات لهم رمزًا ومنارة تُحكم وتتحكم ببوصلة العظام الذين استقبلوا رسالات السماء على ترابها مثل : خليل الله إبراهيم، ونبيُّ الله موسى ورسول الله وكلمته المسيح عيسى ابن مريم والكنيسة الوطنية المصرية قد توافقت بدورها تنظيرا وعملا مع الأزهر، ومن ثمَّ جاءت وثيقة الأزهر حول مستقبل مصر (19/6/2011م) لتؤكد قطعًا دون مواربة على أهمية الوعى ودوره فى حماية مبادئ التعددية وحرية الاختلاف المذهبى والملى والثقافى والعلمى، كما تنص على ذلك بنود وثيقة الأزهر.

● قضية التخلف الحضارى وكذلك سؤال النهضة والتقدم يتعلقان بالوطنية والأوطان ومحبتهما فهل من دور هنا لقيم الولاء والانتماء فى قضية النهضة والإصلاح ومكافحة التخلف الحضارى؟

●● تعزيز قيم الولاء والانتماء الوطنى وترسيخ الهُويَّة فى عالمنا الذى يعايش ويعانى أزمة قيم فى ترسيخ الهوية وتعزيز الولاء والانتماء الوطنى مع أن هذه القيم موجودة بالفعل، لكن الأزمة فى تفعيلها وترجمتها إلى سلوك يومى تواصلًا وتعايشًا مع الآخر فى التعامل بقيم التسامح والقيم الجمالية إدراكًا وذوقًا وسموًا بالنفس؟

وذلك هو الأقرب للصواب فما نعايشه اليوم هو أزمة عدم تفعيل تلك القيم؛ لأن الأوطان بما لها من مكانة فريدة فى النفوس والقلوب وفى الواقع العملى بوصفها مجامع الآمال والأحلام ومرافئ الذكريات وملتقى الأحباب ومراتع العيش والسمر، وحصن الأمن والأمان.

الصراع السياسى الحضارى بين الشرق والغرب سبب تشويه صورة الإسلام

وبما لها من دور محورى فى الحفاظ على مسيرة الفكر والحياة الدينية نفسها؛ لأن التفكير بحاجة إلى أوعية بشرية تضمها الأوطان لتحيا فتحيا الفلسفة ويحيا الفكر.

وكذلك الأديان تحتاج إلى الأوطان لممارسة طقوسها وشعائرها، وحياة معتقداته، وتطبيق أخلاقها وتجسيد قيمها.

ولهذا انحازت الفلسفة مبكرًا إلى تعظيم الأوطان فأفردت لها المؤلفات الخاصة ببيان الوطن الفاضل وإرشاد المواطنين إليه، فكتب أفلاطون عن المدينة الفاضلة مبينًا خصائصها ونظامها وصفات رجالها والعلاقات بين أفرادها، وسمات حاكمها. وتابعه الفارابى الفيلسوف بحديثه عن آراء أهل المدينة الفاضلة. وكان سقراط سباقًا إلى العناية بالأوطان وساكنيها، فهو الذى كما يقولون أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض، وجعلها تدخل البيوت وتسوس الناس، وكان من أبرز الأسئلة التى طرحها على معاصريه، سؤاله حول (الأخلاق الوطنية).

ولم تكن الأديان لتكون إلا الأكثر عناية واهتمامًا بتعزيز قيمة الولاء والانتماء الوطنى بالحث على كل ما يجلب له الخير ويدفع عنه الشر، ويؤدى للحفاظ عليه وحمايته والذود عنه.

فهذا نبى الله إبراهيم يجعل دعوته لخير الوطن وأمنه وازدهاره:

قال تعالى: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} (البقرة: 126) وهذا المسيح عيسى ابن مريم – عليه السلام –يضع الأساس للوطن الأرضى مقابل الوطن السمائى الروحى (اعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله) انجيل مرقس (12/12).

ويأتى النبى صلى الله عليه وسلم ليعلن ترابطه غير المنفك مع الوطن الأم مكة، «ما أطيبك من بلد وأحبك إلى، ولولا أن قومك أخرجونى منك ما سكنت غيرك». رواه الترمذى وصححه.

وهو الذى جعل الموت دون الوطن شهادة؛ لأن الوطن يتضمن الأهل والمال والعرض والدم المطلوب حمايته والحفاظ عليه، «من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتل دون دينه فهو شهيد، ومن قُتل دون دمه فهو شهيد، ومن قُتل دون أهله فهو شهيد» رواه الترمذى وحسنه.

لأن الوطن الآمن كذلك هو الوعاء والإطار والكيان الحافظ للضرورات الخمس الكلية التى أوجبت الأديان حمايتها والحفاظ عليها، وهي: الدين، والعقل، والنفس، والمال، والعرض. وما انفك التاريخ الدينى للإسلام يذكر بعض أعلامه بخصوصيتهم الوطنية مميزًا لهم بها، مثل: (سلمان الفارسي)، (بلال الحبشي)، (صهيب الرومي)،... إلخ.

● فى رأيك إلى أى طريق وصلنا فى مسألة تجديد الخطاب الدينى؟

●● حتى يمكننا أن نعرف إلى أين يسير تجديد الخطاب الدينى فعلينا أن نعرف ماهية وحقيقة تجديد الخطاب الدينى وهو عملية مركبة من مسارات عدة: الأول التزام المنهج العقلى الصائب فى تناول النص الدينى الموصى به فى القرآن الكريم والسنة النبوية، والثانى تصحيح المفاهيم المغلوطة والأفكار الخاطئة حول القضايا الإنسانية، والمرأة والآخر، وتعدد الأديان والثقافات، أما الثالث فهو استبعاد القضايا الزائفة التى تم إقحامها على خارطة الخطاب الدينى دون أن تكون هناك ضرورة أو حاجة حقيقية إليها، ومن هنا يمكن القول إن ضرورة تجديد الخطاب الدينى التى تستلزمها نوازل العصر الحاضر وحالنا الآنى تحتاج دعمًا وزخما قويا بواسطة الدولة، لأن الجهود المبذولة حتى الآن للتجديد هى جهود فردية وليست مؤسسية، وإن كانت مشكورة لكنها غير كافية أو قادرة على إحداث التأثير والتغيير المطلوب الذى يحتاج تعاون المؤسسات والوزارات لتعمل جنبا إلى جنب من خلال تنسيق مركزى ومن خلال اللوائح والتشريعات القانونية.

● دعاة العلمانية يرون أن التمسك بتعاليم وقيم الأديان خاصة الدين الإسلامى ضد التنوير وحرية التعبير فما رأيكم؟

●● الدين جاء يستهدف سعادة الإنسان فى الدنيا والآخرة، والقيم التى هى عبارة عن معاييروأحكام تحكم وتوجه أخلاقياتنا وتصرفاتنا السلوكية التى من خلالها نتعايش مع الناس، هذه القيم هى محل عناية الفلسفة أيضًا منذ القدم، فالفلسفة أيضًا تستهدف سعادة الإنسان، والدين جاء نعمة من الله، والعقل أيضًا وهو أداة الفلسفة هبة مكن الله، إذن الدين والفلسفة يتفقان فى أن المصدر لكيهما واحد من الله، وهو العقل والوحى، ولا يمكن أن يكون هناك تعارض بين هذين الأمرين، ولا يمكن أن يتسبب الدين فى أى عملية ضد التنوير، لأنه لا يوجد تعارض بين نص صريح وعقل صريح، فالعقل والنقل الصحيح يسيران متجاورين.

● قضية التراث الإسلامى تتجدد من حين إلى آخر، فالبعض يريد هدم التراث والآخر يؤيد بقاء التراث فإلى أى الفريقين تميل؟

●● ينبغى تحديد مصطلح” التراث الإسلامى” فإن كان المقصود به القرآن الكريم والسنة النبوية والآراء الفقهية وآراء المفسرين والمتكلمين والمفكرين، فهذا توصيف خاطئ، بكل تأكيد فيجب أن نخرج من التراث الإسلامى القرآن والسنة النبوية، فهما ليسا تراثًا، فهذه أصول مقدسة نسير على هديها، أما إن كان المقصود بالتراث الإسلامى ما أنتجه العقل المسلم من خلال النظر فى هذه الأصول، فأنتج لنا تفسيرًا وفقهًا، ورؤى كلامية، فمن الممكن إعادة النظر فى هذه الآراء الفقهية والفكرية والفلسفية وهذه الفتاوى، وهذا هو ما يجب أن نتوجه له بالفحص والدرس والتوقف عنده، فهو نتاج عقل بشرى نستطيع أن نصوب ما كان فيه من خطأ، ونضيف إليه، أما القرآن والسنة فهما أصول مقدسة لايمكن المساس بهما.

● أخيرًا..يتعرض الإسلام حاليًا لهجوم كبير من قبل الغرب وإعلامه تحت ادعاء حرية الرأى والتعبير فكيف ترى ذلك؟

●● صورة الإعلام الذهنية فى الغرب مشوشة ومغلوطة بسبب أمرين، إما بسبب عملية الصراع السياسى الحضارى ما بين الشرق والغرب، حيث يتخذ الغرب فيه أدواته ووسائله لتحقيق الانتصار، فيتم التشويش للرموز المهمة فى مكونات العنصر الحضارى والشرق، وأما الجزء الآخر فيعلق ببعض أبناء هذا العالم بما يقدمونه من أفعال غير سوية تتمثل فى أفعال تيارات العنف والإرهاب التى تقدم نفسها، على أنها الممثل الحقيقى لحضارتنا وديانتنا، مع أن الحضارة والديانة الإٍلامية قائمة على التسامح، وقد عصمت الدماء والأموال والأعراض، فلا يجوز استباحة أى شئ منها، إلا بموجباته من تعد لحدود أخرى منها، وبسبب هذين الأمرين تشكلت الصورة الذهنية عن الإسلام، ومن ثم نشأ فريق من المتعصبين فى الغرب يعمل على الإساءة للدين الإسلامى من خلال بعض الصحف والمجلات الصفراء أو مواقع التواصل الاجتماعى.