رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

حكاية وطن

السقا وظيفة قديمة عرفت قبل التطور الحضارى فى مصر بإيصال المياه إلى البيوت والمساجد والمدارس، بعد جلبها من الخزانات أو النهر بواسطة القربة المصنوعة من جلد المواشى والتى يحملها السقا على كتفه، واستمر حوالى ألف عام، واندثرت إلى الأبد بعد وفاة آخر سقا الأسبوع الماضى عن عمر يناهز 80 عاما! انتشرت مهنة السقا فى الأزقة والحوارى والأرياف، ولم يكن اختيار السقا من الأمور السهلة، ولكنه كان يتطلب بعض الشروط القاسية للموافقة عليه وكان الشخص الوحيد المسموح له بدخول المنازل!

جاء ذكر السقا فى سيرة «على الزيبق»، وهى المهنة التى تخفى بها البطل وارتدى ملابس السقا وحمل القربة على ظهره المنحنى ليستطيع دخول منزل الوالى كل يوم ويستطلع الأخبار لينتقم منه، ما يؤكد قدرة السقا على دخول المنازل بسهولة والإنصات إلى كل ما يحدث فيها وبالتالى كان مصدرا مهما لمعرفة أحوال الناس فى بيوتهم.

وأخيرا كتب الأديب الراحل يوسف السباعى روايته «السقا مات»، التى صدرت للمرة الأولى عام 1952، واعتبرها كثير من النقاد أهم رواية كتبها «السباعى»، وتدور أحداثها حول حارة مصرية فى العشرينيات، من القرن الماضى، حول فلسفة الموت ومحاولة الشخصية الرئيسية «المعلم شوشة» السقا الهروب من ذكرى وفاة زوجته الشابة، وتحدث مفارقة عجيبة عندما ينقذ «المعلم شوشة» شخصا ما من الضرب فى أحد المطاعم، ثم تتوقف علاقته به ويدعوه للإقامة معه فى بيته مع حماته وابنه «سيد»، وهو لا يعلم أن هذا الشخص يعمل فى محل متعلق بدفن الموتى، وينفر «المعلم شوشة» من ضيفه فى البداية، لكن الضيف سرعان ما يتمكن من إقناع «المعمل شوشة» بمواصلة حياته ونبذ الخوف من الموت، إلا أن أكبر مفارقة تحدث عندما يموت الضيف نفسه فجأة فى بيت «شوشة» فينهار المعلم بسبب ذلك، وبعد فترة يستعيد «المعلم شوشة» عافيته ويأتيه خبر سار بتعيينه شيخا للسقائين فى المنطقة، إلا أن البيت ينهار فوق رأس المعلم وتنتهى حياته فى مشهد قوى ومؤثر.

فى الماضى كان من الممكن رؤية السقا منحنى الظهر يجول فى بلاد الله تحت شمسه وسمائه، بين المجاذيب وأصحاب الوظائف الحقيقية فيصطبغ وجهه بالسواد القمحى، وتتخذ قدمه شكلا مفلطحا من فرط الوقوف والمشى ليلا ونهارا ساعيا بين الحسين وبيت القاضى وبوابة المتولى وحارة السقائين والسيدة زينب والسيدة عائشة، فمهنة السقاية كانت معروفة لدى الجميع، وكان للسقائين شيخ طائفة، وأماكن للتجمعات وأخرى للسكن، أما الآن فهم عملة نادرة تكاد تكون اندثرت، وأعتقد أن آخر سقا فى مصر هو عم عبدالحميد بكر، الذى توفى خلال أحد أيام عيد الأضحى عن عمر يناهز 80 عاما، كان يتجول فى الموالد ليمنح مريدى آل بيت النبى كوب ماء من القربة بالمجان، لم يطلب عم عبدالحميد مقابل هذه الخدمة لضيوف السيدة زينب والحسين والسيدة نفيسة، كان يقول: نحن قوم لا نطلب ولا نرفض، مثل صندوق ماء مجانى بجوار ثلاجة خاصة، إذا أخذ منها مقابلًا فلا بأس، وإن ترك فهذا خير وبركة، لكننا لا نطلب شيئا أبدا، فلسانى أخرس فى هذا ويدى مقطوعة عن الطلب مثل أجدادى.

لقد أخذت مهنة السقا فى الاحتضار بالقاهرة حينما أنشئت شركة المياه وبدأت فى إنشاء آلات الضخ والأنابيب التى توزع المياه داخل المدينة، ولكنها كانت مستمرة فى بعض المناطق، وإن كانت وسائل السقاية قد تطورت فلم تعد القربة القديمة المصنوعة من جلد الماعز، بل أصبحت فناطيس معدنية ومكعبات بلاستيكية وجراكن محمولة على أكتافهم أو براميل على عربات الكارو، التى تجرها الخيول والحمير يملأها السقا المعاصر من صنابير المياه، لكى يوزعها فى المناطق العشوائية المحرومة من المياه بأطراف القاهرة وقرى مصر.

حتى هذه المناطق العشوائية فى الوقت الحالى سواء فى المدن أو الريف وصلتها المياه النقية عن طريق «حياة كريمة»، بفضل توجهات الرئيس عبدالفتاح السيسى الذى أدرج آلاف المناطق ضمن برنامج «حياة كريمة»، والتى أصبحت تنعم بالمياه النقية والصرف الصحى وكافة المرافق لتوفير الراحة للمواطنين.

لقد عاصرت السقا فى القرية خلال فترة الستينيات وكان «عم عطينو» و«عم جابر» يحملان القربة على أكتافهما بعد ملئها من نهر النيل الذى نطلق عليه البحر وهو على بعد عشرات الأمتار من المنطقة السكنية ويقومان بصبها فى الأوانى الفخارية بالمنازل والتى كنا نطلق عليه «الجرة» أو «الزير»، وكانا يحصلان على ملاليم قليلة أو كميات بسيطة من إنتاج الزراعة من قمح أو ذرة أو فول وسمسم. كانت أيامًا بسيطة وكانت مهنة السقا من المهن التى يحترمها القرويون لأنه كان يرجع الفضل إليهم فى الحصول على جرعة ماء من النهر بدلا من شرب مياه الترعة التى كانت تستحم فيها الحيوانات!