رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

تأملات

قبل أن تقرأ.. عنوان هذا المقال اقتباس لعنوان الكتاب المشهور للمفكر الفرنسي  جوليان باندا (1867 – 1956)  والذي أشار إليه المفكر الراحل إدوارد سعيد في كتابه «المثقف والسلطة» وهو كتاب اعتبره البعض يمثل هجوما لاذعا على المثقفين الذين يتخلون عن رسالتهم. وفي منظور باندا فإن المثقفين الحقيقيين يشكلون طبقة العلماء أو المتعلمين البالغي الندرة حقا، لأن ما ينادون به هو المعايير الخالدة للحق وهي التي لا تنتمي إلى هذه الدنيا، إنهم في نظره أقرب ما يكونون إلى الصدق مع أنفسهم حين تدفعهم المشاعر الميتافيزيقية الجياشة والمبادئ السامية، أي مبادئ العدل والحق، إلى فضح الفساد والدفاع عن الضعفاء وتحدي السلطة المعيبة أو الغاشمة.

من سياق تناول إدوارد سعيد تدرك أن باندا ذاك كان يدرك مدى أهمية استعانة الحكومات بالمثقفين لا في مواقع القيادة بل لتدعيم السياسات الحكومية وللدعاية ضد الأعداء الرسميين. وربما يخطر في بالك أن باندا متشدد في رؤيته مغرق في الخيال عندما تغوص في محاولة تعريفه للمثقف الحقيقي.. حيث يفترض باندا أنه - المثقف - على استعداد أن يحرق علنا أو أن ينبذ من المجتمع تماما أو يصلب. إن المثقف «الباندوي» إذا صح التعبير شخص متفرد قادر على أن يقول كلمة الحق في مواجهة السلطة وهو سريع الغضب فصيح اللسان شجاع إلى درجة لا تعقل وثائر لا يرى أن ثمة سلطة دنيوية أكبر وأقوى من أن ينتقدها ويوجه اللوم إليها. هذه الرؤية ربما تبدو في تصوري، أو بالتأكيد تبدو وليس ربما، مفارقة للواقع إلى حد كبير.

ولا شك أنك مثلي مختلف، اختلافا بينّا وكبيرا قد يصل إلى حد اللامبالاة بما يقوله حين تجد أن باندا يتصور أن المثقفين عليهم أن يكونوا دائما معارضين للوضع الراهن في زمانهم وبصورة دائمة تقريبا.. فذلك ما يشق على النفس ويتجاوز الواقع، وليس الواقع فقط وإنما المنطق أيضا.

بعيدا عن تقدير إدوارد سعيد لرؤية باندا وأنها تبدو له هو شخصيا «خلابة غلابة» إلا أنني لا أشك في أن تلك الرؤية قد تكون خيالية ومغرقة في الشطط، إلا أن المشكلة أنه لم يوجد من يمكنه أن يقدم صورة بديلة تحدد دور المثقف بالضبط، رغم ما يشير إليه إدوارد سعيد في الكتاب الذي نقتبس منه بعض هذه التصورات من أن هناك مكتبة كاملة من الدراسات الخاصة عن المثقفين مخيفة في تنوعها وبالغة الدقة في تفصيلاتها.

وما بين التعريفات المتنوعة التي يستعرضها سعيد ومنها تعريف المناضل الماركسي الإيطالي أنطونيو جرامشي والفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو والتي تقدم صورة أخرى للمثقف وطبيعة دوره في الحياة، يهبط بنا سعيد في تقديري إلى أرض الواقع حين يقرر إن المثقف فرد يتمتع بموهبة خاصة تمكنه من حمل رسالة ما أو تمثيل وجهة نظر ما أو موقف ما أو فلسفة ما أو رأي ما وتجسيد ذلك والإفصاح عنه إلى مجتمع ما وتمثيل ذلك باسم هذا المجتمع.

 إن ذلك يعني ضمن ما يعني ان المثقف عليه في تصوره لأداء دوره، كما يرى سعيد، أن يقوم علنا بطرح أسئلة محرجة، وأن يكون فردا يصعب على الحكومات أو الشركات ان تستقطبه وأن يكون مبرر وجوده نفسه هو تمثيل الأشخاص والقضايا التي عادة ما يكون مصيرها النسيان أو التجاهل والإخفاء. باختصار أن المثقفين لدى سعيد، وبتعبيره هو، أفراد لهم رسالة.. أهمية هذه الرسالة أنها تتضمن ما يصفه بالالتزام والمخاطرة في الوقت نفسه، وكذلك الجسارة والتعرض للضرر.

باختصار المثقف، كما يراه سعيد، بعيدا عن تعقيدات التعريفات المختلفة، ليس داعية مسالمة ولا داعية اتفاق في الآراء لكنه شخص يخاطر بكيانه كله باتخاذ موقفه الحساس، وهو موقف الإصرار على رفض الصيغ السهلة والأقوال الجاهزة المبتذلة او التأكيدات المهذبة القائمة على المصالحات اللبقة والاتفاق مع كل ما يقوله وما يفعله أصحاب السلطة وذوو الأفكار التقليدية ولا يقتصر رفض المثقف أو المفكر على الرفض السلبي، بل يتضمن الاستعداد للإعلان عن رفضه على الملأ!

بغض النظر عن الاختلاف أو الاتفاق مع ما قدمه إدوارد سعيد من فكر ودراسات، وأظن أن اختلافنا معها من الجانب العربي ليس كثيرا، إلا أنك حينما تمعن في مسيرة حياة الرجل، فربما تنتهي إلى أنه بحق كان مخلصا لأفكاره وتصوره لدور المثقف، والذي لعبه بامتياز في الحدود التي تصورها لهذا الدور.

كنت قد قرأت رأيا للمفكر محمد أركون في أحد كتبه بدا لي مستفزا غاية الاستفزاز، حينما راح يؤكد بثقة أنه ليس لدينا مثقفون في عالمنا العربي والإسلامي، حينما عرضت هذا الرأى على تعريفات المثقف ودوره في الإطار الذي تناوله سعيد في كتابه شعرت بأن الرجل – أركون – ربما كان لديه الكثير من الحق فيما ذهب إليه!! وفي المجمل فلعل الكاتب  العربي عبد الكريم الرازحي كان على حق حينما أكد في مقال له بمجلة الآداب البيروتية من أنه يجب «على المثقف العربي اليوم أن يدرك أن هذه الدائرة المغلقة من القمع والتي تتوالد داخلها وتتناسل هزائم امته العسكرية والثقافية والحضارية هي في آخر المطاف من صنعه كمثقف وكمنظر للقمع الذي لم ولن ينتج عنه سوى الهزائم بعد الهزائم»!

 

[email protected]