عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

د. إسماعيل سلام يكتب:

 

 

- كان مصرياً صميماً وقدوة للعطاء والكفاح وقوة الإرادة

- قيادة فريدة وطاقة حب متفجرة للناس والحياة

- يشتري الدواء للمريض ويوصله إلي بيته بنفسه

- لم يتوقف عن التحصيل العلمي منذ الصبا وحتي الشيخوخة

 

رحل عنا أحد عاشقي مصر.. تعلق بها في صباه وشيخوخته .. كان يتحدث عن مصر بحب ووفاء ولم يسمح لأحد أن يقامر علي مفاهيمه من أن مصر ام الدنيا وهي في القمة في توزيع محبته أو في خريطة أحلامه..

 

عرفت الدكتور طلعت اسكندر عندما كنت طالبا في كلية الطب جامعة عين شمس وكنت أن ذهبت وزميلان لي الي قسم التشريح بالكلية لمراجعة بعض النقاط المعقدة في علم التشريح.. وبدون موعد وبدون معرفة وبدون توصية قضي الدكتور طلعت اسكندر ثلاث ساعات معنا.. نحن الطلاب المجهولين بالنسبة له .. كان معلما قديرا متفردا لأنه يعرف عقلية الطالب المصري فكان يربط لنا علم التشريح بالجغرافيا والدلتا ..كل عقدة وضع لها فزورة أو أرقاما او ربطا بمكان تسهل حفظها.. واكتشفنا أن هذا العطاء بدون مقابل بل ولسنا الوحيدين.. هناك الكثيرون وكان لا يكل ولا يمل. وذهبنا الي عيادته بشارع رمسيس، حيث وعدنا بكتاب مبسط في علم التشريح وهنا اكتشفنا أن طلعت اسكندر ليس معلما فقط، بل طبيب للأطفال أيضا ويشاركه في العيادة آنذاك الدكتور محمود البنا.. واكتشفنا أيضا أن د. اسكندر عضو  بمجلس نقابة الأطباء.

وترددنا علي العيادة مرات متعددة.. وكانت مركزا لتجمع المرضي والطلبة وذوي الحاجة.. والعيادة مليئة دائما بالمحبين.. تعرفنا فيها علي بعض العاملين في طب عين شمس ومعهم أطفالهم لاستشارات طبية.. وبعض الطلبة حضروا لأخذ كتاب منه أو طلبا لإجراء كشف مجاني لأحد مرضاهم.. فكان مكانا لمن ضاقت بهم الدنيا من الطلبة او العاملين.. وكان «عاصم» التومرجي يحكى لنا عن إنسانية طلعت إسكندر ولكنه كان غير سعيد بعطائه المتدفق الذى لا يبقى دخلا للعيادة.

وحينما تناقش مشكلة مع الدكتور طلعت اسكندر سواء طبية أو سياسية فأنت تقابل جانبا راسخا في شخصيته، فصوته جهوري ويتكلم بحماس وقوة وحزم.. وتشعر كأنه يخاطب الجماهير بقدرات قيادية عالية ومؤثرة. وسألنا احدي المرات هل ذهبتم الي نقابة الأطباء فأجبناه بالنفي ولكني بادرت فقلت له والله يجب أن يكون هناك ممثلون من طلبة الطب في مجلس النقابة، اذ كيف يتحدثون عن مستقبل هؤلاء دون ممثل لهم.. ويبدو أن الفكرة راقت له، اذ جاء بعد أيام قليلة ليخبرنا أننا مدعوون لحضور مجلس النقابة!! حلم لم نكن نتخيله وقلنا علي الأقل نقوم بمشاهدة المقر، اذ كيف لنا أن نتقابل او نجلس مع هؤلاء الأساتذة العظماء!

وفي اليوم الموعود ذهبت انا وصديقي الدكتور يوسف موسى الي مجلس النقابة.. وكانت هذه الواقعة طاقة نور فتحت لنا مستقبلا وعالما آخر.. وحاولنا أن نجلس في الخلف بعيدا عن الباشاوات ولكن ما كان أن طلب منا النقيب الانضمام والجلوس علي الطاولة! ولمسنا عالما آخر من المناقشات غير الذي نعرفه فى اتحاد الطلبة آنذاك.. وأمام هذا التشجيع كان الجميع يشركوننا في الحديث عن مستقبل الطب في مصر.

كان هذا الاجتماع نقطة تحول في حياتي فقد أتيحت لنا فرصة ذهبية في الحديث مع الأستاذ والعالم الدكتور انور المفتي حيث كان علي أجندة أفكارنا لما نسمع عنه كمهارته في التدريس والتشخيص وكان اسمه يملأ الدنيا كطبيب الرئيس عبد الناصر.. وكان اعجابي به يفوق كل اعجاب عندما قرر أن يذهب الى قريته كل سنة لعمل قافلة طبية وهى قرية سحالي علي ما أعتقد.. وتحدث معنا الدكتور المفتي عن أهمية القوافل الطبية وأنها اللمسة الانسانية التي يجب أن يقدمها الطبيب لمجتمعه.. وبالفعل استطاع هذا الحديث أن يغرس في نفسي أهمية الدور الذي يجب ان اقوم به في القوافل الطبية وفعلا صرت منافسا خطيرا فيما بعد، اذ قمت بما يزيد على سبعمائة وستين قافلة فى ربوع مصر.

ومرت السنون وأمامنا الدكتور طلعت اسكندر رمزا للمصري الصميم وقدوة للعطاء والكفاح وقوة الارادة.. ولكن هذه القيادة الفريدة كانت ايضا مليئة بالمشاعر النبيلة يتدفق منها الحب للجميع .. مجتمعه ومرضاه وأصدقائه .. وكان خير ناصح لأصدقائه.. بل ويفتح الطريق للجميع.. وايثاره يفوق ما يعرفه الكثيرون وأذكر واقعة طريفة عندما ذهب الدكتور مختار جمعة الأستاذ الكبير لأمراض القلب حفظه الله الي محل شيكوريل ليعيد البالطو الذي اشتراه من يوم واحد فقط ورفض البائع استرداده وعضده المدير في ذلك.. وفي أثناء المناقشات ظهر مصادفة د. طلعت اسكندر واستفسر عما يحدث وبسرعة فائقة قال يا سلام علي الظروف لقد جئت لأشتري بالطو ورد عليه د. مختار بأن ذلك البالطو ليس مقاسك ورد بأنه سيشتريه لابن أخيه، حيث إنه سيسافر غدا ويحتاجه بشدة .. وفعلا اشتري طلعت اسكندر البالطو وسألته بعد سنين عن هذه الواقعة وعما حدث للبالطو فضحك وأجاب في الدولاب وعندما سألته لماذا اذًا اشتراه؟ قال إنه لم يتحمل أن يرى صديقه الدكتور مختار جمعة غاضبا ولذا كان مستعدا للتضحية بأي شىء لإخراجه من غضبه!! هذه القصة نموذج لخلق طلعت اسكندر النادر والذي كان يتكرر في العديد من المواقف مع أصدقائه .

أما انسانية طلعت اسكندر فعليك أن تشاهدها وهو يتعامل مع المريض وقد يشتري له الدواء أو يوصله لمنزله.. وعندما عمل في الكويت صار ايضا حديث الناس في رعايته للمرضى. وتزوج من الدكتورة ماجدة البدرماني اخصائية الطب النفسي وكان ملاذا لأصدقائه وأصدقاء أصدقائه عندما يحضرون للكويت..

وفي أمسية كالمعتاد كنا مدعوين للعشاء في منزله مع عدد من الأصدقاء ولاحظت أن هناك سحابة صيف في عيني الدكتورة ماجدة والتي غابت عنها الابتسامة العريضة المعهودة .. وسألت عما يحدث فضحكت وقالت اسأله لقد سحب كل رصيدي من البنك ونظرت اليه فضحك بصوته الجهوري وقال إن الواجب كان يحتم عليّ مساعدة هذا الأخ المصري الذي أرسله لي صديقي فلان ولا يمكن أن ارده.. فقد كان في حاجة ماسة الى قرض لشراء سيارة ليأخذها معه الى مصر ولم يكن في حسابي ما يكفي فاقترضت حساب الدكتورة ونظر الينا وفي صوت واضح ليبرر ما فعله قائلا والله لو رأيت الابتسامة على وجهه بعد فك ضيقته فهى تساوي مائة الف دينار !! فقلت له والله يا بلاش ده انت حصلت على الابتسامة بـ 1% من ثمنها! وضحكنا وضحك الجميع ولكن للأسف لم يدفع الصديق خلال أيام كما وعد ولكن هذا لم يغير موقف د. طلعت اسكندر في مساعدته لكل من يلجأ اليه.

وترى أن د.طلعت اسكندر رحمه الله قد خلق للعمل الجماهيري.. فهو ضخم البنية عالى الصوت.. حديثه متصل لا يتوقف ودائما تجد في كلامه الإقناع.. وحياته كانت مثالا للالتزام وحب العلم ولم يتوقف في حياته لحظة عن طلب العلم  وعندما حصل على الماجستير فى الجينات والهندسة الوراثية انطلق فى البحث العلمي ليسجل كثيرا من البحوث الناجحة وكان لا يتوقف عن الكتابة وترك ما يزيد على 150 كتابا ومؤلفا.

ولم يتوقف عند هذا الحد، بل مضى لدراسة الدكتوراه في بريطانيا ولم يتخاذل تحت دعوي المرحلة العمرية أو ألأعباء الأسرية أو خلافه، لأن العلم كان مالكا لحواسه وطموحاته. وعندما تقدم  لدرجة الدكتوراه طلب مني ان أكتب له خطاب توصية لاستكمال أوراقه.. والحقيقة كنت في حيرة ماذا سأكتب عنه وهو في تخصص الأطفال والوراثة،  بينما كنت جراحا للقلب .. وأخيرا اهتديت إلى أن أكتب خطابا عن الشخصية النادرة التي عرفتها على مر السنين وبالفعل كتبت للأستاذ بالخارج عن أنه شخصية لا تتكرر وعرضت عن انسانيته وكفاحه وانجازاته ولم أنس أن أضع الصورة الحقيقية لطلعت اسكندر الطبيب الانسان.. المعلم.. القيادة.. الكاتب. وبعد أقل من اسبوعين وجدت الأستاذ البريطاني يتصل بي تليفونيا، معربا عن استمتاعه بقراءة خطابي قائلا إنه لايستطيع الانتظار حتى يتعرف على هذه الشخصية العظيمة.. لقد جعلتني متشوقا لرؤية الدكتور طلعت اسكندر والعمل معه.

نجح د. طلعت وحصل على الكثير من الشهادات والتقدير وقدم العديد من الأبحاث في علم الوراثة وصار استاذا للوراثة بكندا. وعندما توليت وزارة الصحة والسكان جاء طلعت اسكندر ليزورني بصحبة  الرسام الكبير طوغان والكاتب العظيم محمود السعدني رحمهم الله.. ولم ينس د. طلعت أن يقدم شيئا لوزارة الصحة فأعد برنامجا لتدريب الأطباء ضم كبار الأساتذة في الداخل والخارج وبالفعل ساعد هذا العمل على ملء الفجوة في تدريب الأطباء في مجال الأمراض الوراثية للأطفال.

وفي كندا رزقه الله بابنين عظيمين الدكتور عصام وهو مستشار الحكومة الكندية للاتصالات والدكتور عادل أستاذ الإعلام بجامعة فان كوفر بكندا اللذين حققا نجاحا هناك وبالطبع كان الأب العظيم يتفانى في تربيتهما بعد رحيل زوجته .

ولم يغب عن د. طلعت اسكندر دوره الوطني المصري المخلص، فأنشأ مؤسسة السفير ونجح في عمل مجلة رائدة تنقل الأخبار المصرية وتعيش مع واقع مصر وتطلعاتها..  وعلى صفحاتها من السياسيين والعلماء والشخصيات العامة ويضم مجلس ادارتها الأستاذ الدكتور مختار جمعة أستاذ القلب الشهير أطال الله عمره والمرحوم طوغان ود. محمود البوز وكوكبة من اساتذة كندا والولايات المتحدة.. وعاشت السفير منذ عام 2007 لتتضمن أجمل الموضوعات عن مصر ولتحمل صورة مشرفة لمصر والمصريين.

لقد رحل عنا د. طلعت اسكندر.. رحل عنا بعد أن ملأ قلوب الكثيرين بحب لا ينتهي ولا يعرف المصلحة..  تاركا لنا عطاء ليس له حدود.. وسعادة فى تحقيق آمال الآخرين.. وانسانية تفيض على كل من يحتاجها.. ووطنية تعيش في كل لحظة معه..  نعم رحل عنا الطبيب الانسان الفارس المكافح العالم ابن مصر وصانع الحب.. رحل عنا الى رحمة الله تاركا بعده الذكرى وأجمل الذكريات.