بوابة الوفد الإلكترونية
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس التحرير
عاطف خليل
المشرف العام
ياسر شوري

«الوفد» تنفرد بملف إنساني عن شهداء الصحافة في قصف مستشفى ناصر

صحفيو غزة يصرخون للعالم: «بيكفي.. إحنا بنحب الحياة»

شهداء الحقيقة في
شهداء الحقيقة في مجزرة مجمع ناصر الطبي

في غزة يُباد الصحفيون على الهواء وهم يُفتشون عن صورة أخيرة تُعانق العالم، ليكونوا شاهدين على أن الصحافة ليست مجرد مهنة، وإنما قدرٌ يختاره أصحابها عن وعيٍ كامل، كمن يمضي طوعًا نحو الشهادة، مؤمنًا بأن "الحقيقة لا تموت وإن مات أصحابها".

أضاف الاحتلال إلى سجله الأسود جريمة حرب جديدة لحظة ارتقاء 5 صحفيين تساقطوا نجومًا في ليل غزة جراء قصف مستشفى ناصر بخان يونس، خبت أصواتهم دفعةً واحدة وتحوّلوا من ناقلي الخبر إلى عناوينه، في ليلة بكت فيها السماء، وارتجّت لها الأرض وشهدت عليها الشمسُ ناقمة، ولو استطاعتْ أن تقذف المحتل بنارها المستعرة لفعلت انتقامًا لشعبٍ أزال من قواميسه مفردات "الحياة".

شهداء الحقيقة
شهداء الحقيقة

5 من حراس الحقيقة كتبوا وصاياهم قبل تقاريرهم، عاشوا في خيام صغيرة بجوار مجمع ناصر، ناموا على الأرض، تقاسموا حلم وقف الحرب وفُتات الخبز، لم يعرفوا رفاهية الحماية، ولا امتيازات المهنة، كل ما امتلكوه: سُترات أثقلتها الشظايا وكاميرات بلّلتها الدماء.

ودّعتنا مريم أبو دقة وهي تُمنّي نفسها بمعانقة طفلها؛ وغادرنا معاذ أبو طه الذي كان يُهرول بين الأطفال ليصنع لهم فسحة علاج وحياة، وبقي أثره في وجوه من أنقذهم.

ورحل حسام المصري تركًا خلفه زوجة تُصارع السرطان وحيدة، وارتقى محمد سلامة حاملًا معه أحلام زفافٍ لم يكتمل، فيما صعد أحمد أبو عزيز بالميدان مقاومًا مرضه حتى آخر نبضة، وأسماء أخرى حملت الكاميرا ولم تعد.. تحوّلت دماؤهم إلى مداد جديد يكتب سطور القضية الفلسطينية على جدران العالم.

هذا الملف هو روايتهم، بلسان من بقوا على قيد الألم، شهادات حية عن آخر اللحظات؛ عن آخر مفتاح سُلِّم، عن آخر مكالمة انقطعت، عن أطفال ينتظرون آباءهم على هواتف صامتة، وعن وصايا تُسلم باليد قبل أن يخطفها القصف.

صورة من مجمع ناصر تجمع الشهداء بأصدقائهم بنفس مكان القصف 
صورة من مجمع ناصر تجمع الشهداء بأصدقائهم بنفس مكان القصف 

المفتاح شاهد قبر

محمد إسماعيل: حسام المصري أخذ المفتاح من خيمتي.. وبعد نصف ساعة سمعنا خبر استشهاده

"أجانا حسام الصبح، أخذ مني المفتاح كان بدّه الكاميرا والأغراض من الخيمة المجاورة، قال لي: رايح على مجمع ناصر أشتغل.. وبعد أقل من نصف ساعة دوى انفجار هزّ المكان كله، والشظايا والحجارة وصلت لخيمتنا لأنها ملاصقة للمستشفى".. بهذه الكلمات روى الصحفي الفلسطيني محمد إسماعيل الحداد لـ"الوفد" تفاصيل اللحظات الأخيرة في حياة الشهيد حسام المصري.

وأضاف: "هرعنا باتجاه الموقع وإذا بقذيفتين أُطلقت على الصحفيين محمد سلامة ومعاذ أبو طه ومريم أبو دقة وأحمد أبو عزيز، نزلت علينا شظايا وحجار واحنا بالشارع.. وتم قصف طواقم الدفاع المدني أثناء انتشال الشهيد حسام المصري، رجعنا للخلف ما حدا قدر يتقدم خوفًا من القصف مجددًا، وشاركنا في انتشال الشهداء في مشهد مريب.

الشهيد حسام المصري
الشهيد حسام المصري

وصف محمد إسماعيل المشهد بيوم القيامة قائلًا: “ناس تجري، صرخات تتعالى، أجساد مضرجة بالدم، أشلاء مبعثرة.. الفقد كبير والوجع لا يوصف، حتى هذه اللحظة أشعر بصدمة وكأن هذا كابوس ممكن نفيق منه ويكون غير حقيقي.. استشهد زملائي رفاق التغطية والحدث والصورة، كنا سطرًا كاملًا من الخيام نقضي الوقت مع بعض ونتشارك الحرب والجوع والقهر وأمل وقف حرب الإبادة”.

وعن أصعب لحظة قال: "تطاردني كلمات ابن الشهيد حسام المصري، طفل في الخامسة عشرة، بعدما دفنّا والده حكى لي: رن على جوّال أبويا يمكن يرد علينا! مشهد يبكي القلب قبل العين.. تبلدت مشاعرنا من كثرة ما رأينا، ما عادت لدينا رفاهية البكاء، ما في وقت لا للدموع ولا للحزن لأن عدّاد الشهداء يحصدنا حصدًا، الواقع مرير جدًا، وأصبحنا نعاني من أمراض نفسية بسبب ما عايشناه".

ابن الشهيد حسام المصري
ابن الشهيد حسام المصري

استعاد محمد إسماعيل تفاصيل يومياته مع حسام: “كنا ننام على فرشة واحدة أربعة شهور كاملة، في خيمة صغيرة على مدخل مجمع ناصر الطبي ننام فيها أنا ويّاه وعدد من الزملاء، كنا نفطر "فول" كل صباح، وكان زميلنا الصحفي الشهيد محمد أبو حطب يجيب لنا غدا، في بداية الحرب كانت صحيح مذابح وقتل؛ لكنها إلى حد ما أفضل من ذلك الوقت العصيب الذي نعيش تفاصيله في هذه الأيام.. شاركنا بعضنا تفاصيل التغطية من أولها لآخرها، حسام لم يكن مجرد زميل مهنة، كان أخًا بكل معنى الكلمة، كان إنسانًا نادرًا، طيبًا وهادئًا، لا يكل ولا يمل في خدمة الآخرين، كان آخر من غادر مستشفى ناصر في أيام الحصار، وكان حاضرًا في كل زقاق من أزقة المخيم لينقل الحقيقة بوجه صادق وكلمة حرة.. بخسارته، خسرنا أيقونة الصحافة في خان يونس، وخسرنا قلبًا نقيًا لا يعوض".

الصحفي محمد إسماعيل الحداد
الصحفي محمد إسماعيل الحداد

وبنبرة يكسوها الأسى أكمل: "كان حسام يحمل همًا أكبر من الحرب نفسها: زوجته المريضة بالسرطان. قبل أيام من استشهاده، طلب مني مساعدته في إخراجها للعلاج، قال لي: ما بقدر أشوفها بتتعذب أكثر.. طرق حسام كل الأبواب، لكنه لم يجد من يسمع صوته. ورحل حسام، وبقيت زوجته تقاوم المرض وحيدة، تحمل وجعًا مضاعفًا بعد أن فقدت سندها ورفيقها، فمن أجل حسام، من أجل رسالته التي أفنى حياته من أجلها، ومن أجل أطفاله الصغار، لا تتركوا زوجته تواجه الموت بصمت.. أنقذوها، قفوا معها، لا تخذلوها".

وتحدّث إسماعيل عن بقية الشهداء: "مريم أبو دقة لم تكن مجرد صحفية، كانت دينامو لا يتوقف، شقيقة لنا جميعًا، هي إنسانة مثابرة وخلوقة ومزوحة، وهبت كل حياتها حتى تغطي الأحداث بكل واجبها الأخلاقي والوطني تجاه ما يحدث في قطاع غزة، أما معاذ أبو طه فكان شابًا خلوقًا، لا يختلف عليه اثنان، ومحمد سلامة كان يستعد للزواج من زميلتنا الصحفية هلا عصفور، إنسان مؤدب وعلى خلق.. كلهم من خيرة الزملاء الصحفيين، دائمًا كانت تجمعنا جلسات بعد التغطية نجلس سويًا معًا نشوف تصوير بعض ونعّقب على بعض "شو الصح وشو الغلط"، كنا نتحدث عن الخطر واحتمالية الاستشهاد، ونوصي بعضنا "السلامة تبعتكم" قبل كل تغطية، ولكن الصاروخ حين يأتي لا يستأذن، قصفنا مرات عدة مع بعض، قصف مباشر؛ لأنهم ما بدّهم الصورة تخرج من غزة.. هذا قدرنا والحمد لله لا زلنا على قيد الحياة، ربنا يتقبلهم من الشهداء".

وتابع: "بعد استشهاد زملائنا عملنا وقفة تضامنية أمام مجمع ناصر الطبي وتم عقد مؤتمر صحفي دخل المجمع الطبي تنديدًا بجرائم الاحتلال، جميعنا ارتدينا الزي الصحفي؛ لذلك نحن معروفون للعالم أننا صحفيون وإسرائيل تتعمد استهدافنا، رسالتنا أن حتى هذه السترة لم تعد تحمينا من الموت فنحن مستهدفون إذا ارتديناها.. نتمنى أن يكون هناك موقف دولي وأممي تجاه قضية الصحفيين الذين بات استهدافهم واضحًا بشكل مباشر، وفتحنا بيت عزاء داخل مخيم الصحفيين وتلقينا واجب العزاء في وفاة زملائنا".

اختتم محمد إسماعيل رسالته بصوت يملؤه الإصرار: "برغم أن عدد شهداء الصحافة تجاوز 246، سنبقى في الميدان مستمرون في التغطية.. هذه رسالة وواجب وحق على أكتافنا.. نعرف أن الموت أقرب إلينا من الحياة، لكننا نتمسك بالكاميرا والقلم لأنهما آخر ما يربطنا بالحقيقة.. إلى العالم كله: متى ستستفيقون؟ فلسطين ليست لنا وحدنا.. إنها قضية كل أمة تبحث عن العدل والحرية".

مهنة الموت

د. محمد الأسطل: بكيت لأني ما قدرت أطعم أولادي.. استشهد زملائي وما بقى للصحافة في غزة إلا رائحة الموت

حاورت "الوفد" الصحفي د. محمد الأسطل، مراسل وسائل إعلام فلسطينية وأجنبية وأكاديمي في اختصاص الإعلام، والذي لم يكتفِ برواية القصف والموت وإنما روى المجاعة قائلًا: "بكيت في مرات كثيرة لأن ولادي كانوا جوعى، زميلتي سألتني "ليش بتبكي؟" قلت لها لأن ولادي ناموا جوعى واستيقظوا وهم جوعى وأنا أحكي معك وأنا جائع وما بقدر أسوّي شيء، بكيت بكاء قد يكون الأشد طوال حياتي، شعور أن تكون عاجزًا عن تقديم شيء لأطفالك محزن جدًا".


محمد فقد 12 كيلو من وزنه في شهري المجاعة الأخيرين، حيث قال: "كنت آكل ربع وجبة عدس بدون خبز.. وأطفالي الخمسة يأكلون وجبة واحدة باليوم "عدس مع معكرونة".. اضطريت لتغيير صورتي الشخصية عشان الناس تصدّق إن إحنا تغيّرنا من الجوع".

<span style=
د. محمد الأسطل في أعقاب المجاعة - وما قبلها

وتطرق محمد الأسطل إلى وصف وقع نبأ استشهاد زملائه عليه، قائلًا: "وقع الخبر عليّ كوقع الصاعقة خصوصًا أنني كنت في مستشفى ناصر قبل الاستهداف بليلة واحدة وكان من المفترض أن أكمل في تلك الليلة، ولكنني تأخرت في العمل، كنت على تواصل بحسام المصري وبيننا أحاديث طويلة، قبل استشهاده قال لي إنه يشعر بالوحشة؛ بيوتنا ضاعت والشعب هُجر وأُبيد، ما بِدنا نموت لكن لم يعد لنا في هذه الحياة شيء".

وأضاف: “الصحفي في غزة لا يمكن قياسه بأي صحفي في العالم؛ همومه مضاعفة، يخوض معارك على جبهات عديدة؛ معركة توفير احتياجات عائلته وتأمينها في خيمة، ومعركة أخرى في مهنته الصحفية، ومعركة أخرى في النجاة من القصف والموت، ومعركة أخرى في توفير احتياجات عمله؛ كشحن الهاتف المحمول وتوفير البطاريات وتوفير ذاكرة إضافية أو هارد خارجي لـ"اللاب توب"، ننشر إعلانات على صفحاتنا أبسط شيء حتى المايك غير موجود، الصحفي الفلسطيني يحب الحياة، يحلم بانتهاء الحرب وعودته لأطفاله، كلنا نكتب وصايانا، أنا لا أخرج لمكان حتى أوصي زوجتي "ديري بالك لو صار أي شيء تتصلي في أخوي.. في أبوي".. الصحفيين اللي استشهدوا عشنا معهم أيام طويلة، وغطينا الأحداث بشكل مشترك، لكل واحد منهم قصة وحلم لم يكتمل، البعض كان يحلم بالعودة لبناء بيته من جديد، وبعضهم كان يحلم بالحصول على وظيفة ثابتة في العمل الصحفي، وبعضهم كان ينتظر أن يتزوج".

الشهيد الصحفي محمد سلامة وخطيبته الصحفية هلا عصفور
الشهيد الصحفي محمد سلامة وخطيبته الصحفية هلا عصفور

ذكر لنا محمد الأسطل لحظات قاسية ما زالت عالقة في روحه قائلًا: "وداع الشهداء عمومًا والصحفيين خصوصًا مؤلم، حينما كنا نقف أمام ثلاجة الموتى في المستشفى مشاهد وداع الآباء للأبناء والأبناء لآباءهم شيء لا يحتمله بشر، حال الأمهات "تفتح كفن وتسكّر التاني"، إحداهن كانت تهمس في أذن ابنها وتحكي "قلتلك يامّا بلاش تجيبلي كيس طحين أنت لا جبتلي طحين ولا إجيتني يامّا".. في حالة الجوع كان الشباب والفتيان يروحوا لنقاط المساعدات الأمريكية فيتم إطلاق النار عليهم ويرجعوا جثث هامدة، والأبناء بذات الطريقة يقفون أمام جثامين آباءهم يرددون: "ارجع يابا"، نحن نكون في مشهد قاسٍ أقسى اللحظات لحظات وداع الآباء والأبناء لأقاربهم؛ آباء وأمهات يفقدون الوعي، زوجات تتحسر، أطفال صغار يبكون، كل مشاهد الشهداء مؤلمة للغاية، أيضًا نقلنا التجويع، قصص يندى لها الجبين؛ من مسنين لا يجدون الطعام، ومن عائلات لها 10 أيام لم تأكل الخبز، وأطفال كانوا يترنحون بين الخيام وهم جالسون غير قادرين على اللعب، تفاصيل موجعة جدًا عن التجويع كانت لطفلة مثلا عمرها 12 عامًا نقص وزنها حوالي 10 كيلو تتمدد على ظهرها غير قادرة على السير وعلى التركيز، وضعف الإبصار لدى الناس".

وأكمل: "نجوت من الموت مرات عدة، ذات مرة كنا في منطقة على مقربة من إطلاق الرصاص وبالكاد زحفنا زحفًا لمائتي متر حتى نجونا.. القصف المدفعي كان يصلنا في كل مكان وقت التغطية، وتعرضنا لإطلاق نار مباشر.. من يعمل في غزة كصحفي أو كإنسان يتعرض لإطلاق الرصاص، لا يوجد مواطن فلسطيني في قطاع غزة إلا ونجا من الموت مرات عديدة، وما يدفعنا للتماسك هو أننا نشعر أننا أمام رسالة إنسانية وطنية بامتياز وأننا أصحاب حق فلسطينيين".

وأردف: "أركز في تغطيتي ليس فقط على أنسنة التغطية، ولكن أركز على تعميق الأنسنة، أن نخلق أنّ من يشاهد أو يقرأ يشعر أنه في قلب الحدث، نتحدث عن عذابات الناس؛ عن المسن مريض القلب الذي لا يوجد له دواء، عن الأم التي تبكي ليل نهار وهي لا تستطيع أن توفر قطعة حلوى لابنها، عن الطفلة التي تنادي على طائرة المساعدات المصرية وتحكي "نزليلي شكولاتة" اعطوني رقم جوال الطيار، بدّي أتصل عليه أحكي له ينزلي شيكولاته، الأطفال الذين تركوا مدارسهم وذهبوا لتعبئة جالونات الماء، عن الأستاذ الذي يملك 5 لغات لكنه يجمع الحطب حتى يطهو، التركيز على الإبادة والتجويع، فالمجاعة ليست بالأرقام وإنما بقصص الناس، نحن أمام تحدٍ كبير.. كل الفسطينيين في حاجة إلى تدخل نفسي حال انتهت الحرب".

واختتم محمد حديثه بجملة تلخص معنى الشهادة والرسالة: "تعلمنا أن الصحافة مهنة البحث عن المتاعب، هذا الوصف مهذب ومحدود يصلح في دول مستقرة، لكن الصحافة في غزة مهنة الموت.. نحن ندرك أننا في أولى خطوات الموت ونحن كصحفيين وفلسطينيين نقف على مقصلة الإعدام ننتظر!".

إبادة على الهواء

يافا أبو عكر: شاهدت الصاروخ يُقطّع زملائي على الهواء.. ومريم حكت لي قبل استشهادها: كلها أسبوعين وهروح

"شاهدتُ الصاروخ وهو يقطع بجسد زميلي وزميلتي وأنا على الهواء مباشرة، ولم أكن أعلم وقتها أنها مريم أبو دقة وبقية زملائنا.. كانت لحظة لا تُحتمل، مشهد لن يمحى من ذاكرتي ما حييت".. بكلمات تنزف وجعًا روت الصحفية الفلسطينية يافا أبو عكر لـ"الوفد" تفاصيل لحظات مؤلمة كانت فيها شاهد عيان وقت ارتقاء رفاق الميدان.

وأضافت أبو عكر: "الله يرحم جميع زملائنا الذين ارتقوا.. كل من فقدناهم أحبابنا، كلهم كانوا أصواتًا من غزة وصّلت الجوع ووصّلت الإبادة ووصلت القصف والموت.. أكثر من 12 شهيدًا صحفيًا ارتقوا خلال أغسطس وحده أمام مستشفى الشفاء في الشمال ومستشفى ناصر في الجنوب، هذه الجريمة أثرت فينا نفسيًا وبشكل كبير كصحفيين، حياتنا باتت معرضة على المحك في أي لحظة ممكن نفقد أنفسنا، العالم يشوفنا عم بنموت على الهواء ولم يعيرنا أي اهتمام، صِرنا عارفين إن موتنا مش هياخد من العالم تأثيره دقائق، فقدنا أنفسنا وبيوتنا وأهالينا وأحبائنا والآن نفقد زملاءنا في الميدان.. إسرائيل ترتكب أكبر مجزرة قذرة بحق المدنيين في غزة، الإبادة كانت على الهواء مباشرة".

واستطردت: "كنت على تواصل مع مريم أبو دقة من أول يوم في الحرب حتى قبل ارتقائها بدقائق فقط. لم تكن زميلة صحفية فحسب، كانت أختي وصديقتي، شاركنا معًا الجوع والقهر والبكاء والحصار والموت.. من أصعب اللحظات في حياتي تلقي نبأ ارتقائها وارتقاء الصحفي محمد سلامة، خطيب زميلتي وحبيبتي وابنتي الصغيرة هلا".

الشهيد الصحفي محمد سلامة وخطيبته الصحفية هلا عصفور
الشهيد الصحفي محمد سلامة وخطيبته الصحفية هلا عصفور

وسردت يافا أبو عكر تفاصيل إنسانية مؤلمة عن الأيام الأخيرة لمريم أبو دقة قائلة: "قبل أسبوعين فقط كانت مريم عندي، لم تكن تأكل أو تشرب.. سألتها: ليش هيك بتعملي في حالك؟ فأجابتني بابتسامة هادئة: (كلها أسبوعين وهروح.. ونلتقي فوق.. حياتنا فوق وجنّتنا فوق.. ما إلنا حياة في غزة ليش إحنا عايشين!).. كنا نضحك ونحاول نغيّر الموضوع، لكن الحقيقة أنها كانت تشعر بقرب رحيلها".

وأوضحت: "مريم كانت تتمنى فقط أن ترى ابنها غيث، مثلما أتمنى أنا أن أرى ابني أنس.. الاحتلال لم يترك لنا فرصة لنلتقي بأبنائنا.. كل الصحفيين في الميدان تركوا وصايا وداع قبل الخروج للتغطية، كلهم كتبوا وصاياهم شو بدّهم وشو يتمنوا وشو حابين، نحن إلنا حياة وعائلات وإلنا أسر.. الصحفيون في غزة يحملون أكفانهم على أيديهم.. نحن شهداء قيد الانتظار".

الشهيدة الصحفية مريم أبو دقة - الصحفية يافا أبو عكر
الشهيدة الصحفية مريم أبو دقة - الصحفية يافا أبو عكر

أخت الشهيد

صافيناز اللوح: حملت أخويا الشهيد على كتفي.. كل الصحفيين في غزة أسماء على قوائم الاحتلال

أما الصحفية صافيناز اللوح فسردت لـ"الوفد" بألم يعتصر قلبها تفاصيل أصعب جنازة حضرتها: "أصعب جنازة حضرتها كانت جنازة أخي أحمد، مراسل قناة الجزيرة.. يوم استشهاده أنا اللي حملته على كتافي، كان مشهدًا قاسيًا جدًا، لكن كان لازم أوفيه حقه وأقول للعالم كله إني مفتخرة لأني أخت الشهيد".

<span style=
الصحفية صافيناز اللوح

وأضافت بحُرقة: "استشهاد مريم أبو دقة كان صدمة كبيرة بالنسبة لي.. أغلب تغطيات الحرب كنا مع بعض، ما اعتبرتها زميلة، كنت أعتبرها أختي.. كانت شجاعة بشكل ما يتصدق، طموحة جدًا، وصلت للعالمية في التصوير.. كانت كل ما تشوف سيارة أو جيب تروح تطلع عليه وتصور، الشباب يحكوا لها انزلي يا مريم، تردّ: لأ بِدّي آخذ الصورة. ما كانت تخاف من أي شيء.. وصّلت أمانتها ورحلت".

وتابعت: "جاءت الأخبار واحد ورا الثاني.. أولًا حسام المصري، ثم محمد سلامة كنت أعزه جدًا.. علاقتي بهم قوية جدًا. وقع خبر استشهادهم كان مثل وقع استشهاد أنس الشريف ومحمد قريقع ومثل صدمة يوم استشهاد أخي".

وروت صافيناز اللوح تفاصيل أخرى مؤلمة: "يوم استشهاد أنس وقريقع كنت مريضة وماسكة الجوال في مكان الإيواء اللي ساكنين فيه.. أختي هي اللي أخبرتني بخبر استشهادهم.. علاقتي بأنس كانت كبيرة جدًا، كان من الذين ظلوا في الشمال حتى قبل الحرب، وكنا دائمًا مع بعض في مسيرات العودة، وبعد استشهاد أخي كان دائمًا يسأل عني ويواسيني".

وأضافت: "أنا على قناعة تامة أن هذا الاحتلال يُنفذ كل ما يهدد به.. إحنا عايشين في انتظار القدر.. حتى أنا من ضمن الأسماء التي نشرها الإعلام الإسرائيلي وروجها المستوطنون".

واستطردت: "كلها صدمات في ظل الحرب.. بيتنا انقصف، وخيمتي انقصفت، فقدت تقارير ومواد مصورة كثيرة. وبسبب انقطاع الإنترنت نشتغل على شرائح إلكترونية، ومع ذلك نظل نحاول لنكمل رسالتنا. والله لنكمل المشوار يا مريم ويا حسام ويا محمد ويا معاذ، لآخر نفس فينا".

واختتمت صافيناز رسالتها: "رسالتي لغزة وأهلها: ثبتكم الله وثبتنا جميعًا.. رغم الألم والفقد، سنظل أوفياء للشهداء ونكمل دربهم".

الصورة الأخيرة

سمير البوجي: راسلت معاذ أبو طه عبر الواتساب وبعد دقيقة جاءني خبر استشهاده.. ومريم أبو دقة وصيتي في جيبها ووصيتها في جيبي

فتح الصحفي سمير البوجي قلبه لـ"الوفد" وهو يصف اللحظة التي لن ينساها: "كنت قبل دقيقة واحدة فقط أتحدث مع معاذ أبو طه عبر الواتساب.. كان يحكي لي عن حالة إنسانية لإجلاء طفلة مريضة للعلاج بالخارج. والد الطفلة جاء يشكره ويشكرني، وقال له: بشكرك وبشكر سمير إنكم أنقذتم بنتي وسافرتموها لإيطاليا. فجأة انقطع الاتصال.. بعد دقيقة واحدة فقط، وصل خبر القصف على مجمع ناصر.. قلبي وقع، كنت أتصل وأحاول أصل لمعاذ لكن بلا جدوى، الإنترنت مقطوع والاتصال ميت".

<span style=
صورة تجمع الشهيد الصحفي معاذ أبو طه مع الصحفي سمير البوجي

وأضاف بوجع: "أول خبر وصلني كان استشهاد حسام المصري، بعدها مباشرة قالوا: محمد سلامة اختلط علينا الأمر، فيه اثنان نناديهم محمد سلامة؛ محمد أشرف وزميلنا محمد الأسمر الشهيد محمد سلامة، قعدنا نحكي وأتتبع مع الشباب ومع زملائي "مَن يا شباب" وظللت أبحث عن معاذ.. دقائق بعد ذلك قالوا: هناك صحفية مجهولة بين الشهداء.. اتصل عليّ أبو خليل اللي طالع على اللايف وحكى لي: حد من البنات يجوني ضروري فيه بنت استُشهدت بِدنا بنت تتعرف عليها، وتأكدنا أنها مريم أبو دقة.. يا وجع قلبي عليكِ يا مريم".

سرد سمير تفاصيل اليوم الأسود: "كنت في الجيم لما وصلني الخبر.. انهرت وتعبت لدرجة أنهم اضطروا يطلبوا لي سيارة ترجعني. المشهد الثاني كان للعالم كله على الهواء.. لحظة استهداف زملائي مباشرة أمام الكاميرات. صورة لا تفارق خيالي.. فجاعة المنظر لا يتحملها عقل".

وتابع: "مريم كانت أختًا لي.. كنا نكتب وصايانا ونتبادلها مع بعض. لم أرَ مثابرة مثلها.. في أصعب الظروف، بقيت معي في الميدان ولم تغادر، حتى يوم دخول المساعدات عبر التحلية، كانت معي، أصرّت أن تكمل الطريق رغم الخطر، أنا المقرب لديها من الصحفيين، كنت أنا وياها والشهيد حسن إصليح الله يرحمه ودعاء الباز كنا دائمًا نطلع مع بعض في الأحداث، أي حدث نطلع فيه، أي تغطية نطلع فيها، في أي حدث نتواصل مع بعض، حتى يوم ما صار إخلاء حكوا (إخلاء مستشفى ناصر) كل المنطقة أخلت ما عدا أنا وظلت موجودة معانا هي وبقية البنات وإحنا كمجموعة كنا وبعض الشباب الموجودة إبراهيم محارب وعبدالله العطار ومحمد سلامة وهاني الشاعر وصامد أبو ظريفة وطه أبو ظريفة مجموعة من الشباب ضلينا وما رضينا ننقل ولا نطلع وضلينا لآخر لحظات.. اتجمعنا واتصورنا في نفس المكان اللي انقصف وكانت الصورة الأخيرة إلنا".

<span style=
صورة تجمع الشهيدة الصحفية مريم أبو دقة مع الصحفي سمير البوجي

ثم وصف سمير البوجي زملاءه: "حسام المصري عشرة عمري.. زوجته مريضة بالسرطان، وكان يحارب على جبهتين: جبهة الميدان وجبهة أسرته، ومع ذلك لم يتأخر يومًا عن أي زميل.. ومعاذ أبو طه كان فاكهة المخيم، صاحب الضحكة اللي ما تنطفيش، خفيف الروح، خادم للعمل الإنساني، ساعد في إجلاء أطفال كُثر للعلاج.. قبل استشهاده بيومين بس، كان يقول لي: أنا فرحان ورغم الخطر والتعب كان يحكي: أنا مرتاح، كأنه شايف الجنة"، ومريم أبو دقة تركت بصمة في كل صورة، شجاعة لا تعرف الخوف ولا التعب، وأحمد أبو عزيز.. رغم مرضه وآلام الغضروف، ظل يغطّي وهو يتكئ عليّ، مصمم ألا يترك الكاميرا وعمل قصص انسحاب الجيش الإسرائيلي من منطقة المسلح القريبة من مجمع ناصر، وبعدها رجعنا على الخيمة تعبان وراح على المستشفى أخذ إبرتين، بعدها بـ4 أيام ما قدر يخرج لأنه صمم وضغط على حاله. أما محمد سلامة فكان يستعد للزواج بعد خطوبته في عزّ الحرب، لكنه رفض مغادرة مستشفى ناصر رغم التهديدات ووضعه في النقطة الحمراء، وأصر أن يبقى حتى اللحظة الأخيرة، قبل استشهاده حكى لي: متى تخلص الحرب وأتزوج؟".

واستطرد البوجي بحرقة: "الشهداء الخمسة كانوا أعمدة الإعلام في خان يونس.. جنود لا يكلّون، ولا يعرفون راحة. كنا نعيش الخطر معًا، كنا نجتمع على مأدبة واحدة نأكل ونشرب معًا ونطلع للتغطية معًا، ونكتب وصايانا وكأننا شهود على موتنا القادم، إلى متى حتضل سياسة قتل الصحفيين.. كم من صحفي فقد يده؟ كم من صحفي فقد رجله؟ فقد عينه؟ للأسف أصبحت إشارة الصحافة خطر ويجب أن يُقتل".

واختتم قائلًا: "استشهاد زملائي أثر فينا وبكينا.. لكن ما خفنا، أكثر من 245 صحفيًا استشهدوا في أقل من عامين.. هذا لم يحدث في أي حرب في العالم. لسنا أرقامًا، لكل واحد فينا قصة وعائلة وأبناء. مطلبنا بسيط.. أوقفوا الحرب، سنتين من عمرنا راحوا منا ومن عمر ولادنا، ما في بيت ما فيه شهيد وما في بيت ما فيه جريح، اتركوا لنا حق الحياة، نحن شعب نحب السلام".

وصايا مؤجلة

أنس النجار: آخر رسالة من مريم كانت وصيتها وصحينا على خبر استشهادها

الصحفي أنس النجار، مراسل تلفزيون الصين المركزي، ذكر لـ"الوفد" أن أول خبر غطّاه في هذه الحرب كان وصول جثامين الشهداء والجرحى إلى مستشفى الشفاء يوم السابع من أكتوبر، مؤكدًا أن هذا اليوم ما زال محفورًا في ذاكرته وكأنه حلم لم يستفق منه حتى الآن.

الصحفي أنس النجار
الصحفي أنس النجار

وأضاف أنس: "كلما أتذكر المشاهد التي رأيتها يومها أشعر أنني أعيش كابوسًا لا ينتهي، وعندما جاء خبر استشهاد زملائي كان وقعه كالصاعقة على قلوبنا جميعًا، كنا نلتقي يوميًا في خيمة الإعلام ونقضي ساعات طويلة معًا، كانوا إخوتي قبل أن يكونوا زملاء".

وسرد موقفًا مؤثرًا جمعه بالشهيدة مريم أبو دقة، قائلًا: "آخر رسالة بيني وبين مريم كانت ليلة استشهادها، أرسلت لي فجأة تقول: (يا أنس بِدّي أطلب منك طلبًا، إذا ربنا أخد أمانته أعطي راتبي ومستحقاتي لبنت أختي، واحكيلها هدول من عمتك مريم). لم أتخيل أنها كانت تستشعر قرب أجلها. في الصباح استيقظت على خبر استشهادها، حتى الآن غير مستوعب أنني فقدتها".

ووصف أنس أصعب جنازة حضرها في حياته، مضيفًا: "كانت جنازة الزميلين حمزة وائل الدحدوح ومصطفى أبو ثريا. قبل دقائق فقط كانا معنا في الخيمة، ثم تحركا لمهمة عمل، وبعد دقائق وصلنا خبر استشهادهما.. لا أنسى هذا اليوم أبدًا".

كما تحدث عن لحظة شخصية قاسية قائلًا: "أصعب مشهد صورته عندما وصلت جثامين شهداء إلى مجمع ناصر، وبينهم فوجئت بابن عمتي وزوج عمتي.. لم أتمالك نفسي حينها، كنت واقفًا بين أن أكون صحفيًا أو إنسانًا مكلومًا".

وأكد النجار أن استهداف الاحتلال للصحفيين يهدف إلى طمس الحقيقة، قائلًا: "الاحتلال لا يريد للعالم أن يرى الإبادة في غزة بعدسة الصحفيين، لذلك يمنع دخول الصحفيين الأجانب ويستهدفنا بشكل مباشر".

وأنهى حديثه قائلًا: "تعلمنا كيف نبتكر طرقًا لإيصال الصورة رغم انقطاع الاتصالات والإنترنت، وقفنا على أسطح عالية وحملنا الشرائح الدولية كي نبقى شهودًا على الحقيقة. ورغم كل ما فقدناه، سنكمل رسالتنا".

شهداء قيد الانتظار

من إسماعيل إلى محمد، من يافا إلى صافيناز، ومن سمير إلى أنس، وإلى كل من بقي على قيد الوجع.. الصحفيون في غزة يرفعون كاميراتهم كأنها نعوش معلّقة يكتبون وصاياهم قبل كل تغطية، وينقلون للعالم مشهد الموت بالحبر والدمع.

لكن رغم القصف، رغم الجوع، رغم الفقد، رسالتهم واحدة: "بيكفي.. إحنا بنحب الحياة، لا تصمتوا احكوا عنّا!"