هذا الأسبوع، لم تكن بكين تتابع تصويت الكونغرس الأمريكي بوصفه شأنًا داخليًا أمريكيًا، بل كـحدث استراتيجي من الطراز الأول.
فبأغلبية ساحقة، أقرّ الكونجرس: الإبقاء على القوات الأمريكية في أوروبا وتمويل أوكرانيا لسنتين إضافيتين مع تعزيز الجناح الشرقي لحلف الناتو، وبذلك، كبح الكونجرس أي محاولة من دونالد ترامب — الحليف الضمني لبوتين — لفرض صفقة سريعة تُنهي الحرب.
أوروبا تنفست الصعداء. بردع الكونجرس لترامب، لكن الصين ابتسمت بدهاء فلم يكن تصويت الكونجرس حدثًا تشريعيًا عابرًا، بل نقطة انعطاف في ميزان التاريخ. الصين.
فبأغلبية ساحقة، قال الكونجرس ”نعم” لاستمرار الحرب:
افضل هدية استراتيجية نادرة. للصين، فترامب كان يمثل احتمال “الخروج السريع” ليوتين من المستنقع الأوكراني. الآن ضمنت الصين بقاء روسيا عالقة.
والحرب التي لا تنتهي هي أفضل أنواع الحروب لمن ينتظر في الظل.
وإطالة أمد الحرب الروسية–الأوكرانية لا تخدم أحدًا مثلما تخدم بكين.
كل يوم إضافي في هذه الحرب هو يوم تخسره روسيا…
وتكسبه الصين بلا طلقة واحدة.
روسيا اليوم ليست منتصرة، لكنها أيضًا غير مهزومة.
وهذا — في منطق الحرب — الوضع الأخطر.
استنزاف عسكري بلا حسم اقتصاد مُنهك بالعقوبات
نخبة حاكمة محاصَرة وايضا موارد الغرب هي الاخري تُستنزف
وحدود شرقية روسية تُترك فراغا وهنا مركز الاهتمام الصيني وهدفها الاستراتيجي
فروسيا تقاتل في أوكرانيا،
بينما تتآكل قدرتها على حماية ما هو أبعد وأثمن: أرضها الشرقية
ولفهم ما يجري اليوم، لا بد من العودة قرنًا ونصف القرن إلى الوراء.
في منتصف القرن التاسع عشر، كانت الصين غارقة في “قرن الإذلال”.
استغلت روسيا القيصرية هذا الضعف، وفرضت:
معاهدة آيغون 1858
معاهدة بكين 1860
وبموجبهما انتزعت:
ضفاف نهر آمور
منشوريا الخارجية
وأسست مدينة فلاديفوستوك (هايشنواي صينيًا)
في الوعي الصيني، هذه الأراضي لم تُفقد للأبد، بل فُقدت في لحظة ضعف.هذه ليست حدودًا نهائية، بل جراحًا مؤجلة الإغلاق. فالأرض في العقل الصيني ليست ملكًا سياسيًا،
بل أمانة تاريخية تُستعاد حين تتغير موازين القوة..
ويدلل علي ذلك ما حدث
في عام 1969، عندما انفجر النزاع حول جزيرة تشنباو/دامانسكي على نهر أوسوري.
اشتباكات مباشرة
أكثر من 10 آلاف قذيفة حشد صيني تجاوز 1.3 مليون جندي تفكير سوفيتي جدي في ضربة نووية استباقية، أُوقفت الحرب خوفًا لا سلامًا.
الصين خرجت من تلك اللحظة بدرس واحد: لا تستعد أرضك قبل أن يحين الزمن. المناسب
لذا بحكمة اكتسبتها من تاريخها العتيق استقبلت هنري كسينجر داهية أمريكا و عقدت صفقة مع واشنطن مفادها تعويم الصين سياسيا و اقتصاديا مقابل التعاون في أضعاف و تفكيك الاتحاد السوفيتي .
عمليا يخبرني صن تزو أن حكمة الصين سلاح فتاك.
ومن خلال فهم القوى والمصالح المتضاربة يمكن بناء تحالفات ذكية تستغل الظروف لخلق توازن قوة يصب في مصلحتك،
التحالفات ليست ثابتة. كن كالماء يتشكل حسب الأرض، عدّل استراتيجياتك وتحالفاتك مع تغير الظروف السياسية والفرص، واستغل الفوضى لصالحك.
لا تُقاتل وأنت أضعف. لا تُطالب قبل أن يحين الزمن.
وصلت الصين للهدف الأول
انهار الاتحاد السوفيتي، وُقّع اتفاق ترسيم الحدود عام 1991،
ثم وقع اتفاق مع بوتين بتقسيم جزيرة بولشوي أوسوريسكي عام 2008. في موسكو ، قيل: انتهى النزاع.
في بكين، قيل: جُمِّد النزاع.
والفرق بين الاثنين هو الفرق بين عقل غربي قصير النفس،
وعقل صيني يعمل بالصبر الاستراتيجي
تورط بوتين في نزاع القرم وتم التتويج باجتياح حدود أوكرانيا 2022 شجعت الصين بوتين علي الاستمرار بشراء النفط الروسي بخصم كبير عند تعثر في تلك الحرب دعمته بجيش ظلها الكوري الشمالي .. بالتزامن
المصطلحات التاريخية بالأرض الصينية عادت الخرائط الرسمية تغيّرت والخطاب الإعلامي أصبح علنيًا
في أغسطس 2023، نشرت وزارة الموارد الطبيعية الصينية خريطة تُدرج جزيرة بولشوي أوسوريسكي ضمن الأراضي الصينية.
ثم هذا الأسبوع وبالتزامن مع قرار الكونغرس الأمريكي بدعم أوكرانيا و أوروبا في الحرب ضد روسيا
نشرت منصة NetEase إحدى أكبر منصات الإعلام الصينية مقالًا بعنوان:
“إذا انهارت روسيا، فلا يمكن خسارة 7 ملايين كيلومتر مربع.”
في إشارة الي حجم مساحة الأرض التي تراها الصين ضمن حدودها الطبيعية وهي أكثر أهمية واكبر من مساحة تايون التي تبلغ 36 الف كيلو متر فقط .
إن ما نشر ليس تحليلًا أكاديميًا إنه تهيئة عقلية جماعية.
ففي الثقافة الصينية: الإعلام لا يسبق الدولة… بل يمهّد لها الطريق.
اليوم، لم يعد الحديث الصيني عن الأراضي الروسية أمر عارض
فالشرق الأقصى الروسي يمثل أرض الصين التي سرقتها روسيا والان يعاني من ضعف الوجود العسكري الروسي.
واتسعت الفجوة الديموجرافية لصالح الصين في منشوريا الخارجية وصولا لحدود بحيرة بايكال التي تمثل ربع المياه العذبة في العالم وهو ما يكفي الصين لنصف قرن ويحل لها أزمة الجفاف الذي يضرب بعض مناطقها لفترة لا تقل عن 6 أشهر في العام، وبذلك يصبح الطموح الصيني وجوديًا لا سياسيًا.
و كلما طال النزاع في أوكرانيا: ضعفت روسيا و تعمّقت تبعيتها الاقتصادية للصين والأهم تفقد نفوذها في آسيا الوسطى ويتآكل حضورها في الشرق الأقصى
وبينما: الطاقة تتدفق شرقًا و القروض تربط الدول المحيطة بالصين والنفوذ يُعاد توزيعه دون قتال، وحين تبدأ الصين بإعادة رسم الخرائط، فاعلم أن المعركة انتقلت من الميدان إلى الزمن.”
الصين لا تسأل: هل أرض الصين التي استولت عليها روسيا سوف تعود ؟
بل: متى تعود؟ وكيف دون صدام؟
في الدبلوماسية الصينية:
الخرائط لا تُنشر عبثًا إنها بيان سياسي مؤجل التنفيذ .
في الخطاب الصيني، لا يُستخدم مصطلح “الشرق الأقصى الروسي لوصف تلك الأرض بل يستخدم اسم “منشوريا الخارجية ةوهو توصيف تاريخي لبعض الأراضي التي:
تنازلت عنها الصين لروسيا في لحظة ضعف وانكسار في القرن التاسع عشر
شمال نهر آمور وتخضع اليوم للسيادة الروسية
في نهاية المطاف، طمعت روسيا في أراضٍي أوكرانية بموجب معاهدات عامي 1994 و1997، ثم نكثت بتلك المعاهدات. غزت روسيا أوكرانيا في الفترة من 2014 الي 2022 استنادًا إلى مزاعمها "التاريخية" بأراضٍ في شبه جزيرة القرم ومنطقة دونباس.
الصين تفعل الشيء نفسه تمامًا الآن لكن دون أن تطلق رصاصة.
هل تملك روسيا القدرة على منع ذلك؟
في الوقت الراهن، ليس أمام روسيا خيار سوى قبول الوجود الصيني في منطقتها ، وهيمنة بكين المتنامية فيها. تفقد روسيا نفوذها في شرقها الاقصي الذي يمثل ثلث مساحة روسيا لصالح التمدد الصيني المالي الذي يعمل علي دعم القوى الموالية للصين" و"ربطها بالقروض". الهدف: "استقلال اسمي تحت العلم الروسي، لكن تبعية عملية للصين حتي يحين وقت السقوط عندما تفكك روسيا كما تفكك الاتحاد السوفيتي
بينما بوتين غارق في مستنقع أوكرانيا وترامب عاجز عن انتشاله بفعل مقاومة داخلية من الكونجرس ومقاومة أوروبا
أوروبا بقيادة ألمانيا لصفقاته مع بوتين.
لذا فهو لايعارض هذا التوغل الصيني في الوقت الحالي. وجعل شرق اقصي روسيا مستعمرة مالية للصين بل رغم ذلك
و تُصرّ الدعاية الروسية الي الان على تصوير العلاقة مع الصين كتحالف تاريخي راسخ، ل كن التاريخ يقول شيئًا آخر. فالصين تريد أرضها و تنتظر سقوط روسيا ثم تملأ الفراغ. وتضم اقليم منشوريا الخارجية كخطوة أولى.
وبينما تنشغل روسيا بأوروبا،الآن
تفكك الصين المجال الحيوي الروسي في آسيا الوسطى قطعة قطعة:
كازاخستان، أوزبكستان، قيرغيزستان، طاجيكستان وتركمانستان كلها دولة اتجهت شرقًا نحو بكين لا شمالًا. تجاه موسكو
15% من احتياجات الغاز الصيني تصل برًّا، من تلك الدول
الصين أصبحت الشريك التجاري الأول للجميع.
ثلاث دول كنت ضمن النفوذ الروسي رفضت الانضمام للاتحاد الاقتصادي الأوراسي. هذه ليست مصادفة، بل نهاية نفوذ لبوتين خسره لصالح الصين ويفتح المجال لاضعاف جيوسياسي يسهل سقوط موسكو
الصين لا تبدأ بالدبابات، بل بالاقتصاد ثم الديموجرافيا ثم القروض وفخ الديون.
هنا نصل إلى النقطة الأخطر.
ما يجري ليس فقط إعادة ترتيب نفوذ بين دولتين،
بل تفكك عملي للنظام الدولي الذي تأسس بعد 1945.
هذا النظام كان قام على:
قدسية الحدود واحترام المعاهدات
وتجريم التوسع بالقوة
روسيا كسرت القاعدة في أوكرانيا.
والصين تراقب وتستنتج.
إذا سُمح لدولة نووية بإعادة رسم حدودها بالقوة،
فإن العالم يدخل مرحلة ما بعد القانون الدولي.
لكن الفارق الجوهري:
روسيا تكسر القواعد بالدبابات
الصين تكسرها بالزمن والاقتصاد والديموجرافيا والقروض
وهذا أخطر.
عالم بلا مركز… والصين تعرف ذلك
الولايات المتحدة منقسمة داخليًا. وترامب الذي يقع تحت حصار فضائح جيفري إبستين الجنسية
يحاصر فنزويلا ويسرق نفطها و أوروبا مرهَقة. و روسيا مستنزَفة.
في هذا الفراغ:
.
الصين لا تسعى لقيادة العالم الآن،
بل لامتلاك مفاتيح اختلاله.
الصين لا تخطط لغزو روسيا، في الوقت الحالي ولا تحتاج إلى تكرار سيناريوهات القرن العشرين.
هي تفعل ما هو أخطر:
تترك خصمها يستنزف
تشتري الوقت
ترسم الخرائط وتستعد لوراثة الفراغ
واذاكان بوتين غير قادر علي حسم معركة أوكرانيا فصديقه ترامب هو الاخر يقترب من فخ فنزويلا
الإمبراطوريات لا تسقط حين تُهزم، بل حين تُستنزف خارج جغرافيتها.
وفي ميزان الحكمة الصينية العتيقة، ليس المنتصر هو من يربح المعركة الأخيرة بالحديد والنار، بل هو من يتجنب خوضها حتى يُنهك الخصومُ أنفسهم. وبينما ينشغل العالم اليوم بإعادة رسم الحدود بالدبابات في أوكرانيا أو بالتخيط لاحتلال فنزويلا واشنطن، تكتفي بكين بمراقبة "ساعة الرمل" الجيوسياسية؛ فهي لا تستعجل استعادة ما تراه "أمانة تاريخية" في الشرق الاقصي الروسي ، بل تنتظر اللحظة التي تصبح فيها موسكو ثمرةً ناضجة تسقط بفعل جاذبية الاستنزاف. إنها استراتيجية "الماء الذي يفتت الصخر"؛ لا يصطدم به بعنف، بل يحاصره بالزمن والتبعية والديون حتى يتلاشى الصخر ويبقى الماء.
إنها تطبق حكمة قائدها العسكري الروحي صن تزو
فقِمة المهارة هي أن تُحطم مقاومة العدو دون قتال
. واليوم، بينما يظن الجميع أنهم يصنعون التاريخ في ميادين أوروبا، تبتسم بكين في صمت؛ لأنها تدرك أن من يمتلك "الصبر الاستراتيجي"، هو من سيمتلك الخرائط في النهاية، وأن النظام الدولي القديم لا ينهار بطلقة رصاص، بل يذوب ببطء تحت وطأة الانتظار الصيني العظيم. هذا ليس تهويلًا.
إنه مسار تاريخي بدأ بالفعل.