ﻛﻨﻮز وﻃﻦ
منذ أن استيقظت مصر على دقات القرن العشرين، وهى تمسك بمفاتيح الروح العربية، لا كمجرد دولة على الخريطة، بل كقلب نابض يصنع الوجدان ويشكل الوعى.. فالقاهرة لم تكن عاصمة جغرافية فحسب، بل كانت- ولا تزال- «عاصمة الضمير العربى»، و«هوليوود الشرق» التى أطلقت أنجماً أضاءت سماوات الفن والفكر والإبداع.
ýلم تكن الشاشة الفضية فى مصر مجرد إطار لأفلام ترفيهية عابرة، بل كانت ورشة عملاقة لصناعة صورة ذهنية كاملة عن الشخصية المصرية والعربية..لقد نحتت السينما النموذج الإنسانى المرح، العميق، القريب إلى القلب، الغنى بتفاصيله الإنسانية التى جعلت من اللهجة المصرية لغة عربية ثانية، تتناغم فى كل بيت من المحيط إلى الخليج، حاملة معها قيماً وجمالاً أصبحا ملكاً لكل عربى.
ýوإذا كانت السينما قد صنعت النجوم، فإن الدراما التليفزيونية المصرية صنعت حوارات الأمة..فى ليالى رمضان، تتحول المسلسلات إلى منصة حوار وطنى وعربى واسع، تطرح قضايا المجتمع بجرأة، وتناقش التحولات الكبرى فى الهوية والعدالة والعلاقات الاجتماعية..لم تكن أبداً مجرد وسيلة ترفيه، بل كانت مدرسة شعبية تعلم وتثقف وتثرى النقاش العام فى كل شارع وديوانية.
ومن ينكر أن مصر هى منبع النغم الخالد؟ من سيد درويش إلى أم كلثوم وعبدالحليم، مروراً بالأجيال المتعاقبة، لم تكن الأغنية المصرية لحناً عابراً، بل خطاباً وجدانياً يخترق الحدود ويدخل كل نفس..لقد وحدت الألحان المصرية قلوب العرب فى فرحهم وحزنهم، فى انتصاراتهم وتحدياتهم، لتصبح جزءاً لا يتجزأ من الذاكرة الجمعية للأمة، وسجلاً حياً لعواطفها وأحلامها.
ýولا يمكن لفهم القوة الناعمة المصرية أن يكتمل دون الوقوف أمام منارة الأزهر الشريف، أحد أعرق وأهم المؤسسات الدينية فى العالم الإسلامى..لقد ظل الأزهر عبر قرون قلعة للوسطية والاعتدال، يصدر خطاباً دينياً متزناً وحكيماً، ليمنح مصر مكانة روحية وأخلاقية فريدة، وقدرة على التأثير فى قضايا الفكر والدين تتجاوز كثيراً حدودها الجغرافية.
ýكما كان للكلمة المطبوعة فى مصر دورها التاريخى فى تشكيل الوعى العربى.. فقد حملت الصحف والمجلات المصرية مشاعل النهضة والفكر القومى والتحررى، من خلال أقلام لامعة شكلت رأياً عاماً عربياً، ومارست تأثيراً هادئاً فى عمقه، حاداً فى تأثيره، فى السياسة والثقافة والأدب.
ýاليوم، وفى عصر الثورة الرقمية وتنافس المنصات الإلكترونية، لا تزال القوى الناعمة المصرية تملك مقومات التجدد.. فوسائل التواصل الاجتماعى، وصناعة المحتوى الرقمى، والدراما الحديثة، تفتح آفاقاً واسعة لإعادة تقديم الهوية المصرية بلغة العصر، شرط أن يقترن ذلك باستثمار حقيقى فى الإنسان، والإبداع، والبنية الثقافية والتعليمية.
فى تقديرى أن قياس تأثير مصر الناعم لا يتم بعدد المتابعين أو نسب المشاهدة فحسب، بل بقدرتها الدائمة على خلق حالة من القبول والمحبة، وترسيخ صورتهم كحضارة إنسانية حية، متجذرة فى التاريخ، منفتحة على المستقبل، قادرة على الحوار والتأثير والإضافة. وفى عالم يموج بالتغيرات، تظل القوة الناعمة هى الرهان الأذكى.. ومصر، بكل تأكيد، تملك مفاتيحه.