مزامير داود 2
الشيخ مصطفى إسماعيل صوتٌ قرآني خلدته السماء واحتفى به التاريخ
كان ومازال فضيلة القارئ الشيخ مصطفى إسماعيل رحمه الله أحد أعلام التلاوة في تاريخ القرآن الكريم، وصاحب مدرسة متفردة في الأداء الصوتي والتعبير المقامي، فقد حباه الله صوت آسر، وإحساس بالغ، وقدرة نادرة على ترجمة معاني القرآن نغمًا وخشوعًا.
النشأة والبدايات.. حفظ مبكر وموهبة لافتة
وُلد الشيخ مصطفى إسماعيل في 17 يونيو عام 1905م بقرية ميت غزال التابعة لمركز السنطة بمحافظة الغربية، ونشأ في بيئة ريفية محافظة اعتنت بتعليم القرآن الكريم. وأتم حفظ كتاب الله في كُتَّاب القرية قبل أن يتجاوز الثانية عشرة من عمره، في دلالة واضحة على نبوغه المبكر.
التحق بعد ذلك بـ المعهد الأحمدي بطنطا، حيث تلقى علوم التجويد والقراءات، وتكوَّنت ملامح شخصيته القرآنية، جامعًا بين الالتزام بأحكام التلاوة، والتمكن من مقامات الصوت، وحسن الوقف والابتداء.

أداء فذ ومدرسة خاصة في التلاوة
تميّز الشيخ منذ صغره بأداء استثنائي في تلاوة القرآن الكريم، وببراعة نادرة في التنقُّل بين الأنغام والمقامات، مع قدرة عالية على التعبير عن معاني الآيات بصوته، وأدائه، وسكتاته، وانتقالاته المقامية.
ولم يكن صوته مجرد جمال نغمي، بل كان ترجمة وجدانية لمعاني القرآن، ما جعل المستمع يشعر وكأنه يعيش مع الآيات لحظة بلحظة، وهو ما رسّخ مكانته كأحد أبرز رواد مدرسة التلاوة التعبيرية في القرن العشرين.
من المحلية إلى العاصمة.. انطلاقة الشهرة
ذاع صيت الشيخ مصطفى إسماعيل في بداياته داخل محافظته والمحافظات المجاورة، قبل أن ينتقل إلى القاهرة، حيث بدأت مرحلة جديدة من التألق والانتشار، وازدانت بصوته محافلها الدينية ومناسباتها الكبرى.
وشكّل أحد المحافل التي تغيّب عنها الشيخ عبد الفتاح الشعشاعي محطة فارقة في مسيرته، إذ أتاح هذا الموقف فرصة لجمهور جديد للتعرّف على صوته، فتعلقت به القلوب سريعًا، واتسعت دائرة محبيه من عشاق التلاوة.

الملك فاروق واختيار القارئ الملكي
بلغ صدى صوت الشيخ مسامع الملك فاروق، الذي استمع إلى تلاوته وأُعجب بها إعجابًا بالغًا، فأمر بتعيينه قارئًا لقصر مصر الملكي، وذلك رغم عدم اعتماده رسميًا في إذاعة القرآن الكريم آنذاك، في دلالة على المكانة الخاصة التي بلغها بصوته وحده.
إذاعة القرآن الكريم.. الصوت الذي أسر القلوب
وفي عام 1945م انطلق صوت الشيخ مصطفى إسماعيل عبر إذاعة القرآن الكريم، لتبدأ مرحلة جديدة من المجد والانتشار، حيث تعلقت بصوته الآذان والقلوب داخل مصر وخارجها، وأصبح اسمه حاضرًا بقوة في الوجدان القرآني العربي والإسلامي.
رحلة عالمية وتلاوة خالدة في المسجد الأقصى
جاب الشيخ مصطفى إسماعيل العديد من دول العالم قارئًا لآيات القرآن الكريم، ومحييًا ليالي رمضان، وسط احتفاء رسمي وشعبي كبير. ومن أبرز محطاته التاريخية، تلاوته الشهيرة في المسجد الأقصى المبارك بدولة فلسطين، في ذكرى الإسراء والمعراج عام 1960م، وهي من التلاوات الخالدة في ذاكرة الأمة.
وحصل الشيخ خلال مسيرته على عدد كبير من الأوسمة والتكريمات داخل مصر وخارجها، تقديرًا لدوره في خدمة كتاب الله ورفعته.

الرحيل والبقاء.. إرث لا يزول
بعد رحلة عامرة بصحبة القرآن الكريم، امتدت حتى آخر أيام حياته، رحل الشيخ مصطفى إسماعيل عن عالمنا في 26 ديسمبر عام 1978م، ودُفن في مسقط رأسه بقرية ميت غزال، تاركًا خلفه ثروة قرآنية هائلة من التلاوات المتقنة التي لا تزال تنبض بالحياة والخشوع.
صوتٌ باقٍ في الذاكرة
لم يكن الشيخ مصطفى إسماعيل مجرد قارئ، بل كان مدرسة فنية وروحية متكاملة، وصوتًا قرآنيًا استثنائيًا سيظل حاضرًا في وجدان الأمة، تتوارثه الأجيال، وتنهل من عطائه، ما بقي القرآن يتلى آناء الليل وأطراف النهار.