التحكم فى دخول المساعدات
صراع أمريكى على كعكة إعمار غزة
كشفت أمس تقارير صحفية غربية عن ملامح مخطط مثير للجدل تقوده شركات أمريكية وشخصيات سياسية مقربة من إدارة الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» يسعى إلى تحويل عملية إعادة إعمار قطاع غزة إلى مشروع تجارى ضخم يدر مليارات الدولارات، فى واحدة من أكثر مناطق العالم تضررا وإنهاكا بفعل حرب الإبادة الجماعية للشعب الفلسطينى. وتقدر الأمم المتحدة كلفة إعادة إعمار غزة بنحو 70 مليار دولار بعد تدمير أو تضرر ما يقارب ثلاثة أرباع مبانى القطاع.
وثائق أمريكية ومصادر مطلعة كشفت عن تنافس محموم بين شركات بناء ولوجستيات أمريكية للفوز بعقود تشغيل المساعدات الإنسانية وإدارة تدفق السلع إلى القطاع، فى ظل غموض كبير يلف مستقبل الدور الأممى والإنسانى.
ويتضمن جوهر الخطة المقترحة على تعيين متعهد رئيسى يتولى إدارة إدخال نحو 600 شاحنة يوميًا إلى غزة، تشمل مساعدات إنسانية وبضائع تجارية.
ووفق الوثائق، سيُفرض رسم قدره 2000 دولار على كل شاحنة مساعدات إنسانية، و12 ألف دولار على كل شاحنة تجارية، ما قد يحقق للمتعهد عائدات سنوية تصل إلى 1.7 مليار دولار من الرسوم وحدها.
وتشير المصادر إلى أن هذه الآلية لا تتعامل مع المساعدات باعتبارها استجابة إنسانية طارئة، بل كفرصة استثمارية مربحة، وسط تساؤلات حادة حول الجهة التى ستتحمل هذه الرسوم، وما إذا كانت ستُقتطع فعليًا من المساعدات المخصصة لأهالى القطاع المحاصر.
ويشرف على مرحلة التخطيط فريق شكّلته إدارة ترامب خصيصًا لملف غزة، بقيادة صهره «جاريد كوشنر» وبمشاركة مبعوثه الخاص «ستيف ويتكوف»، إلى جانب الحاخام الأمريكي «آرييه لايتستون» الذى لا يعرف مدى دوره فى كعكة الإعمار.
ويقود النقاشات اليومية شخصيتان شابتان هما جوش غرونباوم (39 عامًا) وآدم هوفمان (25 عامًا)، وكلاهما مرتبط بدوائر محافظة أمريكية وبوزارة «الكفاءة الحكومية» التى أنشئت خلال ولاية ترامب.
وأشارت وسائل الإعلام الأوروبية إلى أن الفريق لا يضم دبلوماسيين محترفين ولا خبراء فى العمل الإنسانى أو الاستخباراتى، بل مسئولون سابقون فى برامج إدارية وتقنية، وأوضحت أن البعض يقيم فى فنادق فاخرة فى تل أبيب أثناء صياغة خطط يُفترض أنها ستحدد مصير أكثر من مليونى فلسطينى فى غزة.
وأشارت إلى أن من بين الشركات التى برز اسمها فى السباق، شركة Gotham LLC الأمريكية، التى حظيت سابقا بانتقادات واسعة لدورها فى تشغيل مركز احتجاز للمهاجرين فى فلوريدا عرف باسم «ألكاتراز التمساح»، وهو منشأة أُقيمت بسرعة قياسية وسط أراضٍ رطبة تحيط بها التماسيح، قبل أن يأمر قاضٍ فيدرالى بإغلاقها لاحقًا.
وبحسب التقرير كانت «غوثام» الأوفر حظًا للفوز بعقد إدارة تدفق المساعدات إلى غزة، قبل أن يعلن مؤسسها مات ميكلسن انسحابه من عملية تقديم العطاءات، مبررًا ذلك بمخاوف أمنية وأضرار محتملة على سُمعة الشركة بعد تواصل الصحيفة معه.
وقد قوبلت هذه الخطط بانتقادات شديدة من عاملين فى المجال الإنسانى ومقاولين مخضرمين.
ونقل التقرير عن فاعل خير أمريكى يعمل على إيصال الأدوية إلى غزة قوله إن التخطيط الجارى معيب وساذج، مضيفًا: «لا أحد من هؤلاء إنسانيون أو يملكون أى خلفية فى العمل الإنساني… هذا هراء».
واختصر مقاول أمريكى مخضرم مطلع على الكواليس، المشهد بعبارة لافتة: «الجميع يحاولون تحقيق أرباح، ويتعاملون مع غزة كما لو كانت العراق أو أفغانستان فى إشارة إلى تجارب سابقة تحولت فيها مشاريع إعادة الإعمار إلى بوابات هدر وفساد وربح سياسى.
ويؤكد مراقبون أن ما يزيد من تعقيد المشهد هو غياب رؤية واضحة لدور الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية التقليدية، فى ظل سيطرة دولة الاحتلال الإسرائيلى على تصاريح الدخول إلى غزة، سواء للهيئات الإغاثية أو للشركات الربحية.
ويرى المراقبون أن هذا الواقع يفتح الباب أمام خصخصة المساعدات وتحويلها إلى أداة ضغط سياسى واقتصادى، بدلًا من أن تكون استجابة لاحتياجات إنسانية ملحّة.
وتعيد هذه المعطيات إلى الأذهان نماذج التدخل الأمريكى فى مناطق نزاع سابقة، حيث اختلطت شعارات الإعمار بالربح السياسى والاقتصادى. وفى حالة غزة، يبدو الخطر مضاعفًا: فالإعمار لا يُطرح كحق لسكان دُمّرت بيوتهم وبنيتهم التحتية، بل كمشروع تجارى تديره شبكات نفوذ عابرة للحدود.
وبينما لا تزال الخطة فى مراحلها الأولى، وفق رد المتحدث باسم فريق عمل البيت الأبيض، فإن ما كشف حتى الآن يطرح سؤالًا جوهريًا: هل ستكون إعادة إعمار غزة بوابة لإنقاذ ما تبقى من حياة، أم فصلًا جديدًا من استثمار المأساة الفلسطينية فى دفاتر أرباح الشركات والسياسيين.