ليست غزة وحدها من تنزف تحت القصف والحصار.
في الداخل الإسرائيلي، هناك نزيف يومي صامت، لا تنقله الكاميرات، لكنه يُسجَّل بدقة في دفاتر الاقتصاد:
مليارات تُستنزف، ميزانية تُثقَب، ومستقبل يُؤجَّل… فقط لأن بنيامين نتنياهو واليمين المتطرف قرروا أن الحرب أقصر طريق للبقاء في الحكم.
كل يوم حرب يعني إنفاقًا عسكريًا مباشرًا، تعطّل إنتاج، استدعاء مئات الآلاف من الاحتياط، وهروبًا تدريجيًا للثقة.
ومع تراكم الأيام، لم يعد النزيف رقمًا طارئًا، بل فاتورة فلكية لم تعد قابلة للإخفاء، حتى داخل الإعلام الإسرائيلي نفسه.
الأرقام لا تعرف الأيديولوجيا...
فوفق تقديرات إسرائيلية رسمية وتقارير اقتصادية:
• التكلفة الإجمالية للحرب على غزة تجاوزت 250 مليار شيكل، أي نحو 67 مليار دولار حتى نهاية 2024.
• تقديرات أخرى تشير إلى أن الكلفة قد تتراوح بين 50 و60 مليار دولار إذا استمرت العمليات بنفس الوتيرة.
• هذه الأرقام تعادل أكثر من 10% من الناتج المحلي الإجمالي الإسرائيلي، وهو عبء لم تشهده إسرائيل منذ عقود.
نحن لا نتحدث عن ميزانية دفاع اعتيادية، بل عن حرب تبتلع الاقتصاد الإسرائيلي رويدًا رويدًا.
والمفارقة التي تفضح عبث الحرب
الأكثر فداحة أن:
ما أنفقته إسرائيل على الحرب يقارب – أو يوازي – تكلفة إعادة إعمار غزة بالكامل.
وفق تقديرات الأمم المتحدة والبنك الدولي، فإن إعادة إعمار غزة تحتاج ما بين 40 و70 مليار دولار.
بمعنى آخر:
مليارات أُحرقت في الدمار، كان يمكن أن تُستخدم لإنهاء الصراع…
لكن منطق القوة لدى اليمين المتطرف لا يعرف سوى خيار واحد: المزيد من الحريق.
اقتصاد يُدار بعقلية الطوارئ الدائمة
مع استمرار الحرب:
• الإنفاق العسكري خرج عن السيطرة
• العجز في الموازنة اتسع
• الاقتراض ارتفع
• الحكومة أعادت ترتيب أولوياتها
أموال أقل للتعليم، للصحة، للبنية التحتية…
وأموال أكثر للمدافع والدبابات.
هكذا يُدار الاقتصاد حين تتحول الحرب من أداة دفاع إلى أسلوب حكم.
المواطن الإسرائيلي… رهينة مشروع سياسي
في الخطاب الرسمي الإسرائيلي يُقال إن الحرب “تحمي المواطن”.
لكن الواقع يقول إن المواطن هو من يدفع الثمن.
داخل المجتمع الإسرائيلي:
• ضغوط معيشية متزايدة
• مخاوف حقيقية من ضرائب جديدة وتقليص خدمات
• حالة عدم يقين تضرب الطبقة الوسطى
• قلق طويل الأمد على الوظائف والدخل
بينما تُدار الحرب باعتبارها ضرورة سياسية لنتنياهو، لا خيارًا استراتيجيًا مدروسًا، فإن نزيف الخسائر الاقتصادية مرشح للتفاقم يومًا بعد يوم.
حصاد الحرب: ماذا خسر الداخل الإسرائيلي؟
النتائج لم تعد نظرية، بل ملموسة:
• تباطؤ النمو الاقتصادي مقارنة بالتوقعات السابقة للحرب
• تراجع الاستثمار الأجنبي بسبب غياب الاستقرار
• شلل جزئي في قطاعات السياحة والخدمات
• ضرب سوق العمل مع استدعاء مئات الآلاف من جنود الاحتياط وتعطّل أعمالهم
الاقتصاد الإسرائيلي لا ينهار فجأة…
بل يُستنزف ببطء على مذبح الطموح السياسي.
حين تتحول العقيدة إلى عبء اقتصادي
جوهر الأزمة ليس فقط في حجم الخسائر، بل في فلسفة الحكم.
اليمين المتطرف لا يرى في الاقتصاد عنصر استقرار، ولا في المجتمع أولوية، بل يرى في الحرب أداة لإعادة إنتاج السلطة.
حتى التجويع والحصار لم يعودا مجرد أدوات ضغط عسكرية،
بل أصبحا جزءًا من عقيدة سياسية، ارتدت آثارها على:
• صورة إسرائيل الدولية
• علاقاتها التجارية
• ثقة الأسواق العالمية بها
والسؤال الذي يطارد الحكومة
السؤال لم يعد:
كم ستكلّف الحرب؟
بل:
كم يستطيع الاقتصاد والمجتمع الإسرائيلي تحمّل حرب بلا أفق، تُدار لإرضاء طموح شخصي وعقيدة يمينية متطرفة؟
حكومة نتنياهو تناست – أو تجاهلت – حقيقة بسيطة:
الرهان على القوة قد يُطيل عمر حكومة، لكنه يُقصّر عمر الاستقرار،
ويُراكم فاتورة سيدفعها الجيل القادم.
وفي لحظة ما، سيكتشف الإسرائيليون أن أغلى ما خسرته بلادهم لم يكن المليارات فقط… بل المستقبل نفسه.
وحينها، لن يفيد البكاء على اللبن المسكوب.