بعد إدراجه على قائمة «اليونسكو»
«الكشرى».. حكاية شعب قهر الجوع
فى اعتراف دولى جديد بقيمة الثقافة المصرية وتنوعها، أدرجت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة «اليونسكو» الكشرى المصرى ضمن القائمة التمثيلية للتراث الثقافى غير المادى للإنسانية، ليصبح أحدث العناصر المصرية المنضمة إلى هذه القائمة، وأول طبق شعبى مصرى يحظى بهذا التقدير العالمى، وهو بذلك، يلحق بصلصة «الهريسة» التونسية، ليكون ثانى طبق عربى فى هذه القائمة. ووفق ملف الترشيح المصرى، فإن قيمة الكشرى لا تكمن فقط فى مكوناته، بل فى الممارسات الاجتماعية المرتبطة به، من طرق التحضير المتوارثة، إلى ثقافة تناوله جماعياً، وارتباطه بالعمل والحياة اليومية للمصريين.
وحين تدرج مصر اسمها فى سجلات اليونسكو، فهى لا تضيف أثراً إلى قائمة، بل تستعيد طبقة جديدة من ذاكرتها الطويلة. فهذه البلاد التى علمت الحجر كيف يصير معنى، والنهر كيف يحمل التاريخ على ضفتيه، لا تقدم للعالم معالم صامتة، بل شواهد حية على حوار قديم بين الإنسان والزمن. من معابد الجنوب إلى فنون العيش اليومى، لتأتى هذه الإدراجات المتتالية، اعترافاً دولياً بأن ما حفظته الذاكرة المصرية لم يكن ترفاً حضارياً، بل ضرورة إنسانية. وهكذا تصبح اليونسكو مرآة أخرى نرى فيها أنفسنا، لا كما كنا فقط، بل كما نحن شعب يصنع من الاستمرار حضارة، ومن الذاكرة مستقبلاً.
طبق الكشرى المصرى ليس طبقاً بقدر ما هو حكاية تأتى الجائعين ملعقة تلو أخرى. ففى هذا الازدحام البسيط للأرز والعدس والمكرونة، تختبئ روح المدينة التى تعلمت كيف تصنع الوفرة من القليل. فكل طبقة فيه تشبه وجهاً من وجوه الناس، متواضعة وحدها، لكنها حين تجتمع تصير كاملة المعنى. لا يتباهى الكشرى بأصوله، ولا يدعى الأرستقراطية، بل يجلس على المائدة بثقة من يعرف أنه ابن الشارع، وابن الجوع القديم، وابن الصبر المصرى الطويل. وحين تسكب عليه صلصة الطماطم الحارة، لا تضيف له نكهة فقط، بل يوقع المشهد الأخير لحكاية شعب وجد فى البساطة حلاً لمفاجآت الجوع.
«الكشرى»، فى جوهره، ليس وصفة غذائية، بل ذاكرة جماعية موضوعة فى طبق. هو خلاصة خبرة المصرى مع الزمن، كيف يصالح القلة، ويحول التنوع إلى انسجام، ويصنع من الاختلاف طمأنينة. على موائد البيوت الشعبية، وبين عربات الشارع، تعلم الكشرى أن يكون طعام الجميع بلا استثناء، وأن يحمل معنى مختلفاً للرضا والشبع. فحين يأكله المصرى، لا يشبع وحده، بل يستدعى تاريخاً من التحمل والمشاركة، كأن الملعقة تعبر به لحظة إلى حيث كانت الحياة أقسى، لكن القلب أوسع. هكذا ظل «الكشرى»، رغم تواضعه، علامة هوية لا تحتاج إلى شرح، لأن الذاكرة تعرفه قبل اللسان.
وبانضمام «الكشرى»، يرتفع عدد عناصر التراث الثقافى غير المادى المسجلة باسم مصر إلى ثمانية عناصرمنها، السيرة الهلالية، التحطيب، رحلة العائلة المقدرسة، والأراجوز. وهذا إلى جانب عدة ممارسات تشترك فيها مصر مع دول أخرى منها، معارف نخيل التمر، فن الخط العربى، فنون النقش على المعابد، ومهارات الرسم بالحناء.
هذا إلى جانب تصنيف «اليونسكو» صناعة الدمى اليدوية التقليدية والنسيج اليدوى فى صعيد مصر ضمن قائمة التراث المحتاج لصون عاجل.
ولا يقتصر إدراج عنصر ما فى قوائم اليونسكو على كونه تكريماً رمزياً، بل يعد خطوة مهمة فى حماية التراث ونقله للأجيال القادمة، وزيادة الوعى بقيمته محلياً ودولياً، وتشجيع المجتمعات على الحفاظ عليه بوصفه جزءاً من هويتها الحية، كما يعزز هذا الاعتراف الصورة الثقافية لمصر عالمياً، ويؤكد أن حضارتها لم تتوقف عند الماضى، بل لا تزال تتجدد فى تفاصيل الحياة اليومية.