أوراق مسافرة
قدر مصر ألا ترتاح، ما أن تسعى جاهدة لإطفاء جذوة نيران اشتعلت فى المنطقة العربية، إلا وتشتعل نيران إفريقية أخرى لها صلة تماس وتأثير فى العمق الجيوسياسى المتمثل فى العلاقات السياسية والدولية القائمة على عوامل جغرافية مثل الموقع، الموارد الطبيعية، كما لها انعكاسها السلبى على الأمن القومى المصرى، فلم تضع الحرب على غزة بعد كل وذرها، إلا واشتعل السودان الشقيق مجددًا، الرئة الجنوبية لمصر، وإذا بالأشقاء يقتلون بعضهم البعض فى تصفيات عرقية بشعة لا يرتكبها حتى الوحوش ضد بنى جنسهم، ليتأجج وجع جنوبى جديد فى جسد مصر.
لا جدال أن أى مساس بأمن واستقرار السودان هو تهديد للأمن القومى المصري، وأن مسئولية المصرية تجاه السودان لا تتوقف عند ضرورة درء أى انعكاسات سلبية عليها جراء هذا الاقتتال وألا أمن وألا سلم، فالأمر ليس قاصرا على إشكالية التأثر، بل ممتد لعمق آخر وهو دور مصر التاريخى نحو السودان منذ الأزل فى كفالة الحماية والأمن والسلم لها ودفع جهود البناء والتنمية والتعمير، وحرصها على ألا تتمزق أراضيها وتتفتت إلى دويلات أو أقاليم فرعية، ويعلم الجميع جهود مصر السابقة التى حاولت من خلالها الحيلولة دون انقسام السودان إلى دويلتين شمال وجنوب، ولكن للأسف حدث الانقسام والتقسيم وفقًا لأجندات غربية خارجية نجحت فى تغذية أطماع السلطة والانقسام لخدمة مصالح هذا الغرب لا مصالح الشعب السودانى، وللأسف وقع السودانيون فى الفخ.
وها هى مصر الآن فى مواجهة أخرى تطلب منها التدخل مرة أخرى تضاف إلى عشرات المرات السابقة لمنع تقسيم أراضى السودان مجددًا إلى قسم يشمل دارفور وتقع أقصى غرب السودان ومعها كردفان وتقع وسط السودان وعلى شمال دارفور ويسيطر عليها قوات الدعم السريع لينفصل عن شرق السودان وأجزاء من الشمال ومدن أخرى مثل الخرطوم والتى يسيطر عليها الجيش السودانى، ويتطلب هذا من مصر تدخلًا لا يعلم سوى الله مداه فى المستقبل لحقن دماء السودانيين ولضرورة تثبيت مقاليد الحكم والأمن فى يد الحكومة الشرعية للسودان، وعدم السماح بوجود أى قوة موزاية للجيش الوطنى، كما أن استمرار الأوضاع الأمنية المضطربة والمذابح التى تنفذها قوات الدعم السريع ستنعكس سلبًا على مصر فى عدة قضايا جوهرية، فى مقدمتها أمن الحدود لأن هذه الاضطرابات ستزيد من فرص التسلل عبر الحدود إلى مصر من قبل الإرهابيين، مهربى السلاح، المخدرات، المتاجرين بالبشر، فالجيش السودانى لن يركز على حماية الحدود الممتدة مع مصر والتى تبلغ 1276 كيلومترًا قدر تركيزه على حشد جهوده وآلياته العسكرية لمواجهة قوات الدعم السريع، وهو ما يتطلب من مصر حشد المزيد من عمليات التأمين والحراسات على الحدود من جانبها لسد الخلل والثغرات المتوقع حدوثها من قبل الجيش السودانى، كما أن استمرار الصراع على هذا النحو من العنف وإصرار كل طرف على أحداث التغيير الذى يسعى إليه بالقوة وبالتصفيات الدامية للطرف الآخر ينذر بانتقال الصراع إلى دول الجوار ما لم تتوقف الحرب بإرادة داخلية قبل انتظار التدخل الخارجى، وثانى الإشكاليات لمصر أن ما يحدث فى السودان سيؤثر سلبًا على ملف سد النهضة وعملية الحسم النهائى للملف وضمان الدعم السودانى الكامل لموقف مصر، ثالث المشاكل تتمثل فى انتظار أمواج من اللاجئين السودانيين على الحدود المصرية والفارين من ويلات الحرب، وهو ما يضع مصر فى موقف حرج بين الرفض والقبول إذ يوجد فى مصر قرابة 800 ألف لاجئ سودانى مسجلين رسميا، فيما يشير الواقع إلى وجود ما يصل إلى 1.5 مليون لأن الكثير منهم يدخل بلدنا عن طريق التهريب، ويعلم الجميع الأوضاع الاقتصادية القاسية فى مصر والتى لا يحتمل معها قبول المزيد من اللاجئين، فمصر لا تستضيف فقط السودانيين وحدهم بل تستضيف مئات الآلاف من جنسيات عربية وإفريقية أخرى على رأسها السوريين والعراقيين، وجميع هؤلاء يتمتعون بمزايا كبيرة لا تقل عما يتمتع به المواطن المصرى بشىء يذكر.
وبجانب التأثير الأمنى والسياسى والاجتماعى على مصر جراء الأوضاع المتردية فى السودان فهناك أيضًا العلاقات الاقتصادية التى ستتأثر سلبًا سواء التبادل التجارى الذى يقترب من مليارى دولار، مصر تعتمد على نسبة تزيد على 35% من استيراد المنتجات الزراعية واللحوم الحمراء وغيرها من السودان، ويوجد للشركات المصرية استثمارات هائلة هناك فى مجالات الأراضى الزراعية، البناء، الكهرباء، الصناعات المتنوعة، وعندما تتوزع المهام والقيادة السياسية فى السودان بعيدًا عن الحكومة الرسمية، سيحدث نوع من الارتباك فى العلاقات مع مصر على كافة الأصعدة، وهذا لا ما نتمناه.
وللحديث بقية
Fekria [email protected]