هوامش
لم يكن الاعتراف الأخير لعدد من الدول الغربية بدولة فلسطين خطوة بريئة نابعة من صحوة ضمير أو إيمان حقيقي بالعدالة الدولية، فالحدأة لا ترمي كتاكيت، بل هو في جوهره ورقة سياسية جديدة في صراع المصالح بين أوروبا والولايات المتحدة، وبين القوى الغربية نفسها.
الأوروبيون، على وجه الخصوص، سعوا من خلال هذه الخطوة إلى توجيه رسالة مباشرة إلى واشنطن، وتحديدًا إلى إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، التي همّشت القارة العجوز في ملفات الشرق الأوسط، وأوقفت دعمها لهم في مواجهة الدب الروسي ، وكأن هذا الاعتراف هو بمثابة رد اعتبار سياسي ورسالة تحدٍّ، قبل أن يكون دعماً صادقاً لحقوق الشعب الفلسطيني.
بالطبع، العرب والقضية الفلسطينية مستفيدون من هذه الموجة من الاعترافات، فهي تمنح فلسطين شرعية أكبر على الساحة الدولية وتزيد من عزلة إسرائيل. لكن من الخطأ أن نعتقد أن ضمير الغرب استيقظ فجأة، أو أنه أصبح نصيرًا للقانون الدولي وحاملاً لراية العدالة والسلام. الحقيقة أن هذه لعبة مصالح كبرى، يمكن أن تنقلب في أي لحظة إذا اقتضت الحاجة السياسية، كما أنه قد يكون اعترافًا شفويًا فقط وورقة ضغط أوروبية على أمريكا، ولا يحقق أي إضافة أو دعم للواقع الفلسطيني وسرعان ما يتجمد عندما تستدعي المصلحة ذلك.
ما نشهده اليوم هو إحدى نتائج السياسات المتعجرفة لترامب ونتنياهو. فهؤلاء بنوا استراتيجياتهم على الهيمنة وفرض الأمر الواقع، لكن الحسابات لم تجرِ كما أرادوا. الاعتراف الدولي بفلسطين اليوم ليس سوى بداية، وهو يضرب في العمق صورة الولايات المتحدة كقوة لا تُقهر، ويهز الأساس الذي قامت عليه «المظلومية التاريخية» لإسرائيل، تلك الورقة التي طالما استُخدمت لتبرير سياساتها.
اللافت أن هذا التحول يفتح الباب لمرحلة جديدة: فقلوب العالم لم تعد تخشى توجيه ضربات سياسية لإسرائيل، ولم يعد الاعتراف بفلسطين هو الخطوة الأخيرة. نتنياهو، الذي يفاخر بقدرته على المناورة والبقاء، يواجه خطرًا داخليًا متعاظمًا، خطرًا أقرب مما يتصور، ومن داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه، حيث تتزايد الشروخ والانقسامات يوماً بعد يوم.
النظام العالمي يتغير، وكذلك موازين القوى وإنجلترا وفرنسا على وجه الخصوص تبحثان عن دور لهما فيه لتستعيدان نفوذهما كقوى عظمي لها تاريخ استعماري معروف، ولا يصح أن تكونا مجرد دولتين تابعتين لأمريكا تتلاعب بهما كيف تشاء، خاصة في عهد ترامب ذلك الرجل الذي يحاول إذلالهم وفرض هيمنته على العالم وتسويق أن أمريكا هي الحارس الأول والأمين على الأمن في العالم، فالرجل يتحدث بكل صراحة ودون تجميل فقال في كلمته أمام الأمم المتحدة إن عصر السلام تبدد وحل محله عصر الأزمات، وأضاف أن خطابات الأمم المتحدة فارغة ولا تنهي الحروب. وجسد ترامب الوضع الدولي من وجهة نظره في جملة غريبة فقال: إنّ الأمم المتحدة عبارة عن مصعد توقف في منتصف الطريق، بالطبع يقصد أنه لا يعترف بالعصبة الدولية ولا قوانينها ولا قراراتها.
وأخشى أن يكون الاعتراف الأوروبي والدولي بدولة فلسطين مجرد موقف شفوي دون متابعة جادة، أو اتخاذ قرارات واقعية تدعم هذا الاعتراف، خاصة أن إسرائيل بدأت الرد عليهم بإعلانها ضم الضفة وتوغلت قواتها في الأراضي الفلسطينية للسيطرة عليها بالكامل حتى تقطع الطريق أمام الفلسطينيين لإقامة دولة بالفعل، وبالطبع بدعم أمريكي. فهل تتحرك الدول التي اعترفت بدولة فلسطين أم تقف لتتابع القوات الإسرائيلية وهي تستولي على كامل الأراضي الفلسطينية، وتسحق أحذية جنودها بسمات الأبرياء.