ملف السكان في مصر يُعد من أكبر التحديات التي تواجه الدولة، ليس فقط بسبب حجم الزيادة السكانية المستمر، وإنما بسبب طريقة إدارة هذا الملف عبر العقود الماضية. القضية ليست مجرد عدد سكان يتزايد، ولكنها انعكاس مباشر على التعليم والصحة وفرص العمل والبنية التحتية وجودة حياة المواطن.
تجارب دول نجحت في مواجهة التحدي
النماذج الدولية تُظهر أن النجاح ممكن إذا توفرت الإرادة السياسية والرؤية الاستراتيجية.
• الصين: رغم أنها كانت تواجه أكبر انفجار سكاني في العالم، إلا أنها تمكنت عبر سياسات صارمة مثل “سياسة الطفل الواحد” ثم تعديلها لاحقًا، من السيطرة على معدلات النمو السكاني وربطها بخطط التنمية.
• الهند: تعاملت مع الزيادة السكانية عبر الاستثمار في التعليم والصحة، وربط الأسر ببرامج اجتماعية تمنح امتيازات للعائلات الصغيرة.
• دول شرق آسيا مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة، لم تكتفِ بالتوعية فقط، بل قدّمت حوافز مالية وتعليمية وصحية للعائلات الملتزمة بسياسات تنظيم الأسرة، وهو ما خلق وعيًا مجتمعيًا حقيقيًا.
لماذا لم ينجح الملف في مصر؟
رغم الجهود المبذولة والحملات الإعلامية المتكررة، إلا أن النتائج لم تكن على مستوى الطموح. ويمكن تلخيص أسباب ذلك في:
1. غياب الاستمرارية: غالبًا ما يتم التعامل مع القضية بشكل موسمي، فتزداد الحملات الإعلامية فترة ثم تخفت.
2. ضعف التنسيق المؤسسي: كل جهة تعمل بشكل منفصل، فلا توجد منظومة متكاملة تجمع بين الصحة والتعليم والشؤون الاجتماعية والإعلام.
3. ضعف الوعي المجتمعي: ما زالت نظرة الكثيرين للإنجاب مرتبطة بالمفاهيم التقليدية مثل “كثرة الأولاد عزوة” أو “الرزق بييجي معاهم”، بعيدًا عن التفكير في نوعية الحياة.
4. غياب الحوافز المباشرة: المواطن لم يجد حتى الآن مقابلًا ملموسًا يجعله مقتنعًا بأن تقليل الإنجاب يحقق له مكاسب في التعليم أو الدعم أو الخدمات.
توصيات لمعالجة الملف السكاني في مصر
1. دمج السياسات السكانية مع خطط التنمية بحيث يشعر المواطن أن تقليل الإنجاب يرفع من مستوى معيشته وخدماته.
2. توحيد الجهود المؤسسية بين وزارات الصحة، التعليم، الإعلام، والتضامن في خطة وطنية متكاملة.
3. تقديم حوافز مباشرة للأسر الصغيرة مثل أولوية في التعليم الجيد، الدعم، والقروض السكنية.
4. رفع الوعي المجتمعي بطرق مبتكرة عبر الإعلام والدراما والمؤثرين، بعيدًا عن الأسلوب التقليدي الوعظي.
5. إطلاق تجارب محلية ناجحة في بعض المحافظات كنماذج قابلة للتعميم على مستوى الجمهورية.
وتبقي كلمة
القضية السكانية في مصر ليست أزمة أرقام فقط، لكنها أزمة إدارة. وإذا لم تتحول السياسة السكانية إلى رؤية شاملة طويلة المدى تُطبق بصرامة وتتكامل فيها أدوار كل المؤسسات، مع تقديم حوافز عملية يشعر بها المواطن، ستظل الزيادة السكانية تأكل أي إنجاز تنموي مهما كان حجمه.