قطوف
تمثال حمبوت
من بين ثمار الإبداع المتناثرة هنا وهناك، تطفو على السطح قطوف دانية، تخلق بنضجها متعة تستحق التأمل، والثناء، بل تستحق أن نشير إليها بأطراف البنان قائلين: ها هنا يوجد إبداع.. هكذا تصبح "قطوف"، نافذة أكثر اتساعًا على إبداعات الشباب في مختلف ضروبها؛ قصة، شعر، خواطر، ترجمات، وغيرها، آملين أن نضع عبرها هذا الإبداع بين أيدي القراء، علّه يحصل على بعض حقه في الظهور والتحقق.
"سمية عبدالمنعم"

لا شك أن الأجيال الجديدة لا تذكره لأنها لم تعاصره، ولا شك أيضا أن بعضا من الأجيال القديمة لم تعد تذكره، فقد طال الغياب، أكثر من عشرين عاما على رحيل الملك الذى سيظهر لهم غدا فجأة وسط الميدان الفسيح، فيفسح مكانا ومجالا للذاكرة عند عجائز البلد، وسيشعرون بالفخر بذاكرتهم وهى تسكب الأسئلة القديمة عندما كانوا يبدأون يومهم بالمرور من الميدان وهم ذاهبون إلى مدارسهم.. كيف قام هذا الرجل مبكرا ورش الميدان بالمياه ونسق الحديقة؟ متى ينام؟ وهو الذى لم يفارق المحل، طوال الليل ينظم الدراجات ويرصها بشكل جمالي، يتابع الأولاد وهم يطوفون بالدراجات حول الميدان، ينبه أن يكون الدوران جماليا منتظما ولا يتعارض مع مرور السيارات. طيلة سنوات تعدت عدد أصابع يدي اليمنى التي نحلت من كبريتات البوتاسيوم حتى خرج في هيئته النهائية. انبهار موظف تنسيق وتجميل المدينة بالجملة التى أسفل التمثال فى برواز أنيق، كان أشد من إعجابه بالتمثال نفسه (حمبوت.. إله الدراجات وكرة القدم عند شعب البلد).. ضحكت عندما قال: "لماذا لم تكتب إلى أية أسرة ينتمي؟" يقف بشموخ، ساقه اليسرى مفرودة وقدمه راسخة فوق القاعدة، والقدم اليمنى على كرة بمسافة انثناء الركبة، يضع يده اليسرى فى خصره واليمنى تقبض على جادون الدراجة ليجمع التمثال بين أكثر ما عشق: الدراجات وكرة القدم. جبهته تناطح السماء، تبرز عليها خطوط الأمل العريضة، فوق عينين تشعان بالحياة من المرمر والكوارتز والكريستال الصخري الذي حصلت عليه بصعوبة بالغة، غدا سيقف وسط الحديقة فى الميدان الذي تربع اسمه عليه (ميدان حمبوت)، برغم بروز لافتة اسم الميدان الحقيقية (ميدان التحرير).. هو الذي صنع الميدان.. غدا سيقف شامخا مرفوع الرأس كما كان دائما فى وجه العربجية الذين كانوا يتخذون من الميدان موقفا لهم، تتبول فيه بعيرهم وتنتشر الروائح الكريهة التى تتسلل النوافذ فى أرجاء المنطقة، جلبوا بلطجية المدينة ومتسوليها والنشالين لتكون الحديقة وكرًا لهم ومنامة لمتشرديهم ومرتعا للعب القمار. انتفخت عروق رقبته عندما وقف وحده ثائرا فى وجوههم، رافضا ما يفعلونه بالميدان. برزت شرايينه من خلال الصخر المرمري نافرة، لا أدري كيف تشكلت وأنا أخرطها بالإزميل والمنشار، وأدق عليها بالمطرقة.. كما نفرت عروق السمانة وعضلة الفخذ التى أبرزتها وجعلتها ناعمة بالمبرد ناثرًا بعض النقاط السوداء دليل الشعر فى الساقين، وفضلت أن يرتدى الشورت والفانلة التى يحبهما (طقم المنتخب). تلك الساق التى رمح بها حاملا بين ذراعيه أمعاءه، أثناء ثورته هجموا عليه، ضربوه بالسكين حتى خرجت أحشاؤه من بطنه، جرى.. لحق به أحد محبيه بالدراجة حتى المستشفى.. تراجع الأطباء أمامه من فرط الدهشة.. بعد خروجه من العناية المركزة وإتمام الشفاء ذهب إليهم حاملا سكينا كبيرا صارخا فى وجوههم: اقتلونى، اقتلونى، لكن لن تستمروا فى الميدان، إنه المتنزه لأهل البلد وليس للبهائم أمثالكم وروثكم.. طرق أبواب المسئولين، انهال بالشكاوى للصحة والبيئة، حتى وصل صيته للمحافظ.. تكفل ثلاث ليال بنظافة الميدان وتنسيق الحديقة.. اتكاء قدمه على الكرة جعله يقيم دورات رمضانية فى الميدان، انتشارها جعل محرري الرياضة يتنافسون فى نشر الأخبار والنتائج والحرص على حضور مشاهير اللاعبين المباراة النهائية وتسليم الكأس، تناول الخطيب معه وعضو مجلس الشعب إفطارًا جماعيا آخر يوم في شهر رمضان في الميدان قبل المباراة النهائية وتسليم الكأس، وفى العام التالى حضر "فاروق جعفر" و"حسن شحاتة". امتلأ المحل الصغير بصوره مع مشاهير اللاعبين لتوثيق الدورات حتى أصبحت دورة حمبوت أشهر الدورات الرمضانية التى تبثها القنوات الإقليمية. حرص قبل افتتاح كل دورة على أن يقدم عرض استعراض مهارته على الدراجات، يقف فوق الجادون تارة ويسير دون اهتزاز، أو يميل على الإطار الأمامى أو الخلفى رافعا ساقيه لأعلى قابضا على المقود بتحكم مبهر، يقود دراجة ممسكا واحدة بيمينه وأخرى بيساره، مستغلا نحافته الرشيقة، يبدل بقدميه فاردا صدره للريح وسط دهشة الجماهير الذين يحتشدون حول الميدان فى الشرفات كأمهر لاعب سيرك. ولم ينس الأهالى ليلة زفافه، طاف المدينة على دراجة وعروسه أمامه على الكادر بفستان زفافها، وراءه جميع دراجات المدينة من محلات العجلاتية والأهالي، طافوا جميع الميادين وسط الزغاريد والضحكات التى لم تنقطع كلما شاهدوه لشهور طويلة إلى أن لوحظ الحمل على زوجته، وسرى في فضاء المدينة أمر دعوة المحافظ له ورفضه الانضمام للحزب أو خوض انتخابات، ونزع كل الصور التى تم توزيعها عليه لزعماء الأحزاب وشعارات لا يعرف عنها تطبيقا واقعيا. المبرد والمقضاب والشاكوش المدبب الرأس الحديدية طاوعونى كثيرا فى تهذيب فتحة الأنف وعظمة ارتفاع الأرنبة ونظرة التحدي العليا، ابتسامته العبقرية الساحرة التى جمع فيها بين شفتيه الثقة والسخرية، الكبرياء والتواضع، الأمل والرضا، السماحة والإرادة.. أزال اختناق صدره وحرره بوضع ما يعشقه من صور أم كلثوم ونجاة، عبد الوهاب وحليم وفريد، ارتفع صوت المسجل بالربيع وزين البراويز بعقود من الزهور، وتردد صدى صوته بكلماته الأثيرة (أنا ابن جيل الثورة البكري). حاولت فى مرحلة التشطيب أن أستجمع كل ما تراكم داخلى وتعلمته من فنون النحت أن أظهر أسلاك الإطار الأمامى مختلفا عن الإطار الخلفى، كما كان يحب أن تكون دراجاته مختلفة عن باقى دراجات المدينة، فهو لا يعتبر نفسه (عجلاتى) عاديا يرتق الكاوتش أو يقوم بنفخه فقط. حاولت كثيرا عندما بدأت اعتياد زيارته في أواخر عمره أن أجمع منه سيرته التى كنت أتشممها، مثل العطر الخفى الذي يظل في الهواء عمرا طويلا: يومان يترك فيهما الدراجات مجانا للمريدين. يوم الاحتفال بعيد الثورة الموافق تاريخ ميلاده، برغم اقتناعه بأنه لم يعد الناس هم الناس، لا عمال ولا فلاحين، ولم يعد الطلبة هم الطلبة. ويوم الاحتفال بالمولد النبوي يتجمع حوله شباب المتصوفة عرايا، يخلع أسياخ الإطارات يرشقها في صدورهم وظهورهم، مع نصف الليمونة وأوراق الفل، يطوف معهم حول الميدان حتى يتصدروا موكب الاحتفال بقدوم مشايخ الطرق.. يهز لهم رأسه فخورا وحزينا كأنه ينفذ الوعد.. الوعد الذى منحه لنفسه وللعالم أن يكون أكثر من كائن عابر في حياة الآخرين. تحسس موظف التنسيق كل جزء من شعر رأسه حتى القاعدة، أبدى إعجابه الشديد بجنزير الدراجة والبدال، حاول أن يجد مبررا للسبحة المدلاة من حول الجرس. ابتسمت لذكرى رؤيته معتكفًا في مسجد الشيخ السهلى، استأثر بالأذان ليكتشف الناس أن صوته جميل شجى يبعث الطمأنينة والجذب، يعطى دروسا بعد صلاة العصر، فتصوروا أنه أصبح درويشا أدركه التصوف وجلاء الرؤيا في آخر العمر.