رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيس التحرير
ياسر شورى
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيس التحرير
ياسر شورى

في مثل هذا اليوم من الحادي عشر من مايو عام ثلاثمائة وثلاثين ميلادية، ولدت مدينة جديدة من رحم التاريخ، مدينة لم تكن مجرد تجمع من الأبنية والقصور والأسوار، بل كانت إعلانا صريحا عن ميلاد مرحلة جديدة في عمر الإمبراطورية الرومانية والعالم كله.

إنها القسطنطينية، العاصمة الجديدة التي أرادها الإمبراطور قسطنطين الأكبر أن تكون «روما الجديدة»، في ذلك اليوم لم يكن العالم يشهد مجرد افتتاح مدينة، بل كان يشهد تحولا في ميزان القوة، وانتقالا في مركز الحضارة والسياسة والدين من الغرب إلى الشرق، من ضفاف نهر التيبر إلى شواطئ البوسفور.

القسطنطينية لم تكن اختيارا عابرا، بل كانت رؤية إمبراطورية مدروسة، فالإمبراطور قسطنطين أدرك ببصيرته أن روما القديمة، بكل عظمتها، بدأت تفقد بريقها، وأن العالم يتغير، وأن المستقبل في الشرق، حيث تتقاطع طرق التجارة وتلتقي الحضارات.

لذلك اختار موقعا استراتيجيا فريدا يجمع بين أوروبا وآسيا، يطل على بحرين ويتحكم في أهم الممرات البحرية، لم يكن اختيارا سياسيا فقط، بل كان اختيارا حضاريا بامتياز.

ومنذ ذلك اليوم، بدأت ملامح عالم جديد تتشكل، عالم لم يكن يعرف أنه سيشهد بعد قرون طويلة قيام إمبراطوريات وسقوط أخرى، وأن تلك المدينة ستصبح لاحقا مركزا للديانة المسيحية الشرقية ثم للإسلام بعد الفتح العثماني، وأنها ستظل رمزا خالدا للتاريخ المتداخل بين الشرق والغرب.

وأنا أستعيد هذا الحدث اليوم، لا أراه مجرد محطة تاريخية بعيدة، بل مرآة تعكس كيف تصنع الأمم مجدها حين تمتلك الرؤية والإرادة، فالقسطنطينية كانت درسا في أن القوة الحقيقية لا تكمن في الجيوش وحدها، بل في القدرة على قراءة المستقبل وصناعة واقع جديد.

ولعلنا اليوم، في مصر، أحوج ما نكون إلى تلك الروح؛ روح من يفكر للمستقبل لا للماضي، من يزرع الأمل في أرض الواقع، لا من يكتفي بالتغني بالأمجاد القديمة، فالأوطان تبقى حين يجدد أبناؤها عهدهم بها كل يوم، وحين يؤمنون أن الحضارة ليست تراثا يحفظ، بل مسؤولية تصنع.

لقد علمتني الحياة، وما تلقيته من مدرسة الوفد التي نشأت في أحضانها فكريا ووجدانيا، أن حب الوطن ليس شعارا يقال في المناسبات، بل إحساس متجذر في القلب، وشعور بالانتماء لا يتزعزع مهما تقلبت الأحوال.

في مدرسة الوفد تعلمت أن تراب الوطن أغلى من الذهب، وأن الوطنية ليست مجرد كلمات تقال في الخطب، بل مواقف تترجم إلى أفعال.

الوفد علمني أن السياسة في أصلها أخلاق، وأن الوطنية لا تقاس بالهتاف، بل بالوفاء والإخلاص، وبالقدرة على التضحية في سبيل الوطن دون انتظار مقابل.

ومن هنا أجد نفسي أمام ذكرى القسطنطينية أقرأ فيها معنى الوطنية بمعناها الأعمق: أن تبني وطنك كما بنى قسطنطين مدينته، بإيمان وعزيمة ورؤية للمستقبل.

إن التاريخ يعلمنا أن الأمم التي تغير وجه الأرض هي تلك التي لا تخاف من إعادة التأسيس، من اتخاذ قرارات جريئة حتى وإن خالفت المألوف.

تماما كما فعل قسطنطين حين نقل عاصمة الإمبراطورية من روما إلى الشرق، متحديا كل الأصوات التي رأت في قراره تهورا أو خيانة للتاريخ القديم.

لكنه آمن بفكرته وسار فيها حتى النهاية، فكتب اسمه في سجلات الخلود، ونحن كمصريين، حين نقرأ هذا الدرس، علينا أن نؤمن أن بناء المستقبل يبدأ دائما بخطوة جريئة، وأن التحول لا يأتي بالتمني بل بالعمل، فمصر، بتاريخها الممتد آلاف السنين، كانت دائما من تصنع الحضارات ولا تنتظرها، ومن تخلق لنفسها دورا مهما كانت الظروف.

وربما في القسطنطينية نجد أيضا قصة تشبه كثيرا ما نعيشه اليوم من سعي لبناء الجمهورية الجديدة في مصر، نقل مركز الثقل، واستعادة روح الدولة القوية التي تملك قرارها وتخطط لمستقبلها بعقل واع وإرادة مستقلة.

فالتاريخ لا يعيد نفسه، لكنه يتناغم في مواقفه، وكما كان تأسيس القسطنطينية إعلانا عن بداية عصر جديد، فإن كل نهضة وطنية هي في جوهرها تأسيس لعصر جديد من الوعي والانتماء.

وتظل ذكرى الحادي عشر من مايو 330 ميلادية أكثر من مجرد تاريخ في كتاب، بل هي تذكير بأن من يمتلك الشجاعة والرؤية يستطيع أن يغير مسار التاريخ.

والقسطنطينية، مهما تغيرت أسماؤها أو وجوهها عبر الزمن، ستظل رمزا لقدرة الإنسان على البناء، وعلى تحويل الفكرة إلى واقع، والحلم إلى مدينة.

وهذا هو الدرس الذي نحمله نحن أبناء مصر في قلوبنا أن الأوطان لا تبنى بالصدفة، بل بالعزيمة والإخلاص، وبالإيمان بأن لكل جيل دوره في كتابة صفحة جديدة من قصة وطنه، كما كتب قسطنطين صفحة جديدة من قصة العالم.