في الخامس والعشرين من فبراير عام 1963، كانت مصر على موعد مع لحظة فارقة في تاريخها السينمائي والثقافي، حين عرض فيلم "الناصر صلاح الدين" لأول مرة على شاشات السينما.
لم يكن مجرد عمل فني عابر أو إنتاج ضخم يضاف إلى رصيد السينما المصرية، بل كان حدثا وطنيا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ذلك الفيلم الذي أخرجه يوسف شاهين، وشارك في كتابته نجيب محفوظ ويوسف السباعي، لم يقدم فقط قصة القائد صلاح الدين الأيوبي، بل أعاد رسم ملامح البطولة والوطنية في الوعي الجمعي المصري والعربي، في زمن كانت الأمة فيه تبحث عن رموزها الكبرى، وعن صورتها القوية وسط عالم مضطرب.
كان "الناصر صلاح الدين" أكثر من حكاية عن معركة لاسترداد القدس، وأكثر من ملحمة تاريخية تروى بأسلوب سينمائي مبدع، لقد كان مرآة تعكس روح مصر في ستينيات القرن الماضي؛ تلك الروح التي كانت تؤمن بأن الأمة العربية جسد واحد، وأن الفن رسالة من أجل الوعي والتحرر والكرامة.
من خلال عدسة يوسف شاهين، لم نر فقط فارسا يمتطي جواده ليواجه الصليبيين، بل رأينا صورة مصر نفسها، مرفوعة الرأس، مؤمنة بعدالة قضيتها، قادرة على الانتصار رغم كل ما تواجهه من تحديات.
أتذكر جيدا أول مرة شاهدت فيها هذا الفيلم، لم أكن أراه مجرد عمل سينمائي، بل شعرت أني أمام درس في الوطنية، في الشجاعة، في معنى الانتماء الحقيقي.
حين وقف أحمد مظهر في دور صلاح الدين، يتحدث بصوت ثابت عن التسامح والعدالة والوحدة، أحسست أن الكلمات تخترق القلب قبل الأذن.
لم يكن الأمر تمثيلا فقط، كان دعوة مفتوحة لأن نرى أنفسنا في هذا القائد، وأن نفهم أن البطولة ليست في السيف وحده، بل في الفكر والإيمان بالقضية.
نشأت وأنا أتعلم على مدرسة الوفد، تلك المدرسة التي غرست في حب الوطن، وحب ترابه الطاهر، والإيمان بأن الوطنية ليست شعارا يرفع وقت الحاجة فقط، بل أسلوب حياة.
ومن هذا المنطلق، وجدت في "الناصر صلاح الدين" ترجمة صادقة لما تربيت عليه: أن الدفاع عن الأرض والعرض هو واجب، وأن الكرامة الوطنية لا تشترى ولا تقايض.
الفيلم لم يكن مجرد قصة تاريخية، بل كان تذكيرا دائما بأن مصر عبر العصور كانت دائما في قلب المعارك الكبرى، تقف صلبة في وجه الغزاة، وتمنح العالم دروسا في الصبر والمقاومة والعزة.
ما أدهشني أيضا أن الفيلم، رغم إنتاجه قبل أكثر من ستين عاما، لا يزال حيا في الذاكرة، كل مشهد فيه ينبض بحياة جديدة كلما شاهدناه من زاوية مختلفة.
ربما لأن يوسف شاهين لم يقدم عملا عن الماضي، بل قدم عملا عن المستقبل، عندما صور صلاح الدين وهو يتحدث عن وحدة الشعوب ورفضه للانتقام من الأعداء، كان يزرع فينا قيم التسامح والإنسانية، التي ما زلنا في أمس الحاجة إليها اليوم، فالفيلم لم يكن يروج للكراهية، بل كان يبني فكرة الإنسان الحر، الذي يدافع عن حقه دون أن يفقد إنسانيته.
إن "الناصر صلاح الدين" هو أحد أعمدة السينما الوطنية المصرية، ليس فقط بما قدمه من إبهار بصري وتقنيات إنتاج متقدمة لزمنه، ولكن بما حمله من معنى ثقافي وسياسي وإنساني عميق.
هو شهادة على أن السينما يمكن أن تكون سلاحا وطنيا ناعما، يزرع في النفوس حب الوطن من دون شعارات صاخبة، بل من خلال الفن الصادق الذي يدخل القلوب بلا استئذان.
في زمن تتبدل فيه المفاهيم وتختلط فيه الأصوات، يظل هذا الفيلم شاهدا على أن الفن عندما يتصل بالوطن، يصير خالدا لا يموت، وربما نحن بحاجة اليوم إلى أن نستعيد روح ذلك الزمن، لا لنكرر ماضيه، بل لنستلهم منه المعنى الأصيل للهوية المصرية التي تجمع بين الإيمان والعقل، بين القوة والرحمة، بين الحلم والواقع.
لقد كان الخامس والعشرون من فبراير عام 1963 يوما وطنيا بامتياز، لأنه قدم لنا نموذجا حيا لكيف يمكن للفن أن يكون بوابة إلى التاريخ، ومرآة لضمير الأمة.
وبينما تمر السنوات، يظل "الناصر صلاح الدين" يذكرنا بأن البطولة لا تصنعها السيوف وحدها، بل يصنعها الإيمان بالحق، والإخلاص للأرض، والإرادة التي لا تنكسر.
وهكذا يبقى الفيلم، بكل ما يحمله من مشاهد وصور وكلمات، جزءا من ذاكرتنا الوطنية، ودليلا على أن مصر، منذ القدم وحتى اليوم، كانت وستظل بلد الرسالة والعزة والكرامة، التي تكتب تاريخها لا بالحروب فقط، بل بالفن والفكر والجمال.