بوابة الوفد الإلكترونية
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس التحرير
عاطف خليل
المشرف العام
ياسر شوري

الناصر صلاح الدين.. ملحمة البطولة وفخر الأمة

في التاسع والعشرين من ديسمبر عام 1963، شهدت دور السينما المصرية والعربية حدثا سينمائيا لا ينسى: العرض الأول لفيلم "الناصر صلاح الدين"، ذلك العمل الذي جسد ملحمة تاريخية عظيمة، وخلد شخصية القائد الإسلامي الذي أصبح رمزا للبطولة والشجاعة والتسامح. 

الفيلم الذي أخرجه يوسف شاهين وشارك في بطولته نخبة من أهم نجوم السينما المصرية، مثل أحمد مظهر وصلاح ذو الفقار ونادية لطفي، لم يكن مجرد فيلم عابر، بل كان تجربة ثقافية وفنية تفتح نافذة واسعة على التاريخ، وتعيد للأذهان قيم البطولة والإنسانية التي تتجاوز حدود الزمان والمكان.

منذ اللحظة الأولى التي بدأت فيها أحداث الفيلم، شعرت وكأنني أعود إلى عصور مضت، أعيش تفاصيل الحروب الصليبية، وأتلمس نبض قلوب الرجال الذين ضحوا بكل شيء في سبيل استعادة الأرض والمقدسات. 

صلاح الدين الأيوبي لم يكن مجرد قائد عسكري، بل كان رمزا للعدل والشجاعة، شخصية تمثل الطموح الوطني والقومي، تجسد إرادة الشعوب في مواجهة الظلم والطغيان. 

هذا الفيلم جعلني أدرك أكثر من أي وقت مضى أن السينما ليست مجرد صور متحركة، بل أداة قوية لتشكيل الوعي، وإحياء التاريخ في نفوس الأجيال الجديدة، ومن خلاله شعرت بالفخر بأن لدي تاريخا وحضارة تستحق أن يروى ويحفظ.

ما ميز "الناصر صلاح الدين" ليس فقط الأحداث التاريخية التي يعرضها، بل القدرة الفائقة على إظهار الروح الإنسانية العميقة في كل شخصية. 

الفيلم يبرز قيم الشجاعة والوفاء والكرم، ويعلمنا أن البطولة ليست فقط في السيف والقوة، بل في القدرة على العدل والتسامح، وفي حماية الأرض والوطن، وفي أن تكون للقيم مكان أعلى من المصالح الشخصية. 

عند مشاهدتي للمشاهد الحاسمة التي يظهر فيها صلاح الدين وهو يفاوض أو يقود المعركة، شعرت بالانبهار من الكيفية التي استطاع بها الفيلم أن يربط بين التاريخ والوجدان، بين الماضي والحاضر، ويجعل المشاهد يعيش كل لحظة بصدق وإحساس.

الفيلم أيضا يمثل لحظة فارقة في تاريخ السينما المصرية، الإنتاج الضخم والدقة في تفاصيل الملابس والأسلحة والمواقع، أظهرت قدرة صناعة السينما المصرية على منافسة الأعمال العالمية في تقديم التاريخ بشكل فني متميز، وبأسلوب يمزج بين الدقة التاريخية والجمال السينمائي. 

كما أن السيناريو الذي كتبه يوسف شاهين بالتعاون مع نجيب محفوظ ويوسف السباعي، أضفى عمقا فلسفيا وإنسانيا على الأحداث، وجعل الحوار يعكس صراع القيم والمبادئ، وليس مجرد سرد للأحداث التاريخية، هنا، تعلمت درسا مهما: أن الفن يمكن أن يكون مدرسة للتاريخ، ومصدرا للقيم، وأداة لتنشئة الأجيال على حب الوطن والاعتزاز به.

ومن ناحية شخصية، الفيلم أثر في تأثيرا عميقا، لأنني نشأت على مدرسة الوفد التي غرست في حب الوطن وترابه، وعلمتني أن الوطن ليس مجرد مكان، بل هو الأرض التي نعيش عليها، والقيم التي نحملها، والتاريخ الذي نفاخر به. 

مشاهدة الفيلم أعادت إلي تلك القيم، وجعلتني أشعر بالفخر والاعتزاز بماضي أمتنا، وبأن البطولة ليست حلما بعيدا، بل سلوك وموقف يمكن أن يتجسد في حياتنا اليومية.

أما عن التأثير الثقافي، فلا يمكن إنكاره، "الناصر صلاح الدين" ساهم بشكل كبير في تعزيز الوعي القومي، ليس فقط في مصر، بل في العالم العربي كله. 

الفيلم أعاد للجمهور العربي شعور الانتماء والفخر بالهوية، وجعل من السينما أداة للتثقيف التاريخي والتوعوي، لم يكن مجرد عمل فني للترفيه، بل تجربة وجدانية تزرع القيم في القلوب وتربط المشاهد بأمجاد أمته. 

وفي كل مرة أشاهد الفيلم أو أسترجع مشاهد البطولة والصمود، أشعر بقوة الرسالة التي يحملها: أن العظمة ليست في القوة وحدها، بل في القدرة على الوقوف مع الحق والعدل، وفي المحافظة على كرامة الإنسان والأرض.

لا شك أن هذه اللحظة، في 29 ديسمبر 1963، ليست مجرد تاريخ عرض فيلم، بل هي محطة مهمة في تاريخ الثقافة والسينما المصرية، الفيلم كان بمثابة رسالة لكل جيل: تذكروا تاريخكم، اعتزوا بتراثكم، تعلموا من أبطالكم، ولا تتخلوا عن قيم الشجاعة والعدل والتسامح، لقد جعلنا الفيلم نعيش التاريخ، نشعر به، نتأثر به، ونتعلم منه دروسا يمكن أن ترشد حياتنا في الحاضر والمستقبل.

إنني حين أتحدث عن "الناصر صلاح الدين"، لا أتحدث عن مجرد فيلم قديم، بل عن تجربة حياتية، عن درس في الوطنية، وعن تذكير دائم بأن حب الوطن ليس مجرد شعارات، بل أفعال، ووعي، وإيمان بالقيم التي تجعل الإنسان عظيما. 

وهذا ما جعلني أرى في السينما المصرية، وبالأخص في هذا العمل الخالد، قدرة لا تضاهى على ربط الفن بالهوية، والتاريخ بالقيم، والذاكرة الجماعية بالوجدان الإنساني.