جنون الأسعار يعصف بالأسر المصرية
صرخات ربات البيوت فى الأسواق

تشييع الطبقة الوسطى إلى مثواها الأخير.. وحلول الأزمات غائبة
رواتب العاملين لا تكفى.. والفقراء لهم رب كريم
لم تكن الزيادة الأخيرة فى أسعار البنزين مجرد أرقام تُضاف على لافتات محطات الوقود، بل كانت شرارة جديدة فى نار الغلاء التى تلتهم جيوب المواطنين يومًا بعد يوم، فبمجرد إعلان القرار، بدأت موجة من الارتفاعات تطال كل شيء، من خضار وفاكهة، والسلع الأساسية، وحتى المواصلات العامة، لم تعد الأسواق كما كانت، فقد تحولت جولات التسوق اليومية إلى عبء ثقيل على كاهل ربات البيوت، بعد الزيادة الأخيرة فى أسعار السولار، والتى انعكست بشكل مباشر على أسعار السلع الأساسية، خاصة الخضار واللحوم، وفى الوقت الذى تتصاعد فيه الأسعار بوتيرة جنونية، تسقط مئات الأسر المصرية تحت وطأة المصروفات اليومية، غير قادرة على تلبية أبسط احتياجاتها، فيما تبدو الحلول التى لا تضغط على المواطنين بعيدة عن الحكومة، لم تعد المعاناة حكرًا على محدودى الدخل فقط، بل امتدت لتشمل الطبقة المتوسطة، التى كانت يومًا ما عماد الاستقرار الاجتماعى، فأصبحت اليوم فى عداد الفقراء.
نعلم جيدًا أن الدولة تمر بظروف اقتصادية صعبة، وتواجه ضغوطًا إقليمية، وتتحمل أعباء دعم ما يحدث فى فلسطين وبعض الدول العربية فضلًا عن استضافة اللاجئين، ونحن نقف معها وندعم كل ما فيه مصلحة الوطن، لكن لا يجب أن يكون المواطن البسيط هو من يتحمل وحده كلفة كل هذه الأزمات، فمع تفاقم الغلاء وارتفاع الأسعار، باتت الحياة اليومية عبئًا ثقيلًا على كاهله، نثق فى وعى الدولة وحرصها على شعبها، ونأمل فى حلول تخفف الضغط عن المواطنين دون المساس بثوابت الدعم الوطنى، فالمواطن هو خط الدفاع الأول عن الوطن، ويستحق أن يُراعى فى السياسات، لا أن يكون ضحية لها، لذلك يجب أن ترفع الحكومة العناء من على المواطنين بدلًا من الضغط عليهم.
رصدت «الوفد» فى جولتها بالأسواق صرخات النساء اللواتى وجدن أنفسهن فى مواجهة يومية مع قطار الأسعار، وفى قلب هذه الأزمة، تقف أم محمد وغيرها من السيدات فى الأسواق، يحملن أكياسًا أخف، وقلوبًا أثقل، يتنقلن بين الباعة بحثًا عن الأرخص، يتفاوضن، ويتأففن، وفى أحيان كثيرة.. يخرجن دون شراء.
«بقينا بنشترى الخضار بالربع والفراخ واللحمه كده كده نسيناها»، بهذه الكلمات البسيطة لخصت الحاجة أم محمد حالها وحال آلاف السيدات فى الأسواق الشعبية، بعد موجة جديدة من الغلاء ضربت أسعار الخضروات واللحوم، عقب قرار الحكومة برفع أسعار السولار مؤخرًا.
فى جولة صباحية داخل أحد أسواق محافظة الجيزة، تتكرر الشكوى على لسان أغلب السيدات، فالارتفاع الملحوظ فى الأسعار أصبح حديث الساعة، والخضروات التى كانت تُشترى بالكيلو، أصبحت تُشترى بالرُبع أو النصف.
بدأت الحاجه أم محمد، 56 عامًا، حديثها قائلة: «بقينا بنشترى الخضار بالربع والفراخ واللحمة كده كده نسيناها».
«الطماطم كانت بـ6 جنيه من شهر، دلوقتى وصلت 18، الخيار بـ20، البطاطس مش أقل من 12 جنيه وبايظة كمان واللحمة مدخلتش بيتى بقالها كتير ومعرفش بكام ومش عايزة أعرف».
وقالت إيمان، أم لطفلين: «زوجى بيشتغل باليومية، وبصعوبة بيقدر يغطى مصاريف البيت مع الغلاء وارتفاع الأسعار والله مش عارفة أعمل إيه، المصاريف كترت علينا من كل ناحية، حتى مصاريف المدارس مش لاحقين عليها، أنا كمان مريضة بالقلب، والعلاج غالى جدًا، ومش بنقدر نوفره بسهولة، اللحمة بقت شيء نادر، يمكن نشترى فرخة أو اتنين بالكتير مرة فى الشهر، الخضار نفسه بقى غالى، الفلوس مش مكفية حتى لأبسط الحاجات، الأسعار نار، خضار وفاكهة وكل حاجة بقت صعبة، ولو عيل تعب ولا احتاج علاج، نجيب منين الناس مش قادرة تعيش كده، حرام اللى بيحصل فينا، احنا بنستحمل كتير، بس مش معقول كل ده كل شوية الأسعار بتغط على الناس أكتر، لازم يكون فى حل، مش دايمًا المواطن هو اللى يتحمل».
بين رواتب لا تكفى واحتياجات تتزايد.. الطبقة المتوسطة تلتحق بركب الفقراء
ماجدة موظفة وأم لثلاثة أطفال، فقد اختصرت الأزمة قائلة:
«اللى كنا بنشتريه بـ300جنيه فى الأسبوع، دلوقتى ما يكفيش 3أيام كل ما البنزين يغلى، الأسعار بتولع، والتجار بيستغلوا أى زيادة عشان يزودو اكتر، والحكومة مش بتلاقى حل غير على حسابنا احنا»
ووصفت ريهام موظفة بإحدى المؤسسات الخاصة حالها قائلة: «لدى طفلتان فقط، ومع ذلك لا أستطيع تغطية مصاريف الحضانة والمدرسة واحتياجات البيت الأساسية، أنا وزوجى رواتبنا لا تكفى، نشعر وكأننا نحارب وحشًا ضاريًا ونحن لا نملك سوى جسد هزيل، فماذا يفعل من لديه أربعة أو خمسة أطفال؟ نار الأسعار تحرقنا، ولا حياة لمن تنادى من الحكومة أو الجهات الرقابية».
وتشاركهن المعاناة علياء، ربة منزل وأم لأربعة أطفال، مؤكدة أن الغلاء المستمر حول حياتهم إلى كابوس وتقول: «عندى 4 أولاد منهم 2 فى عمر التكوين، ويحتاجون لغذاء صحى يحتوى على بروتينات، ولكن أسعار اللحوم والدواجن والبيض ومُنتجات الألبان صارت خيالية اضطررت لترشيد الاستهلاك، بل ومقاطعة اللحوم الحمراء نهائيًا، أحاول أن أُكمل الشهر براتب زوجى الذى يعمل ليل نهار لتوفير الاحتياجات الأساسية لنا».
يقول محسن، موظف فى الـ45 من عمره، إنه يعانى من ضغوط معيشية خانقة، إذ يعول ثلاثة أطفال وزوجة لا تعمل، ويضطر للعمل بعد دوامه الرسمى فى محل تجارى لتأمين الحد الأدنى من احتياجات أسرته لكنه رغم ذلك، لا يستطيع مجاراة موجات الغلاء المتلاحقة، خاصة بعد الارتفاع الأخير فى أسعار البنزين، ما أدى إلى تراكم الديون عليه وعجزه عن دفع إيجار شقته.
وأختتم حديثه قائلًا: «أعد أولادى بتحسن الأحوال، لكنها تزداد سوءًا، لقد أصبحنا تحت خط الفقر، والدولة لا تقدم حلولًا حقيقية».
مريم، مُعلمة وأم لطفلين، «اتخنقنا والله»
«بقيت أعمل أكل على القد، مرة خضار، مرة عدس، يوم فول، مسقعة وبطاطس مهروسة، اللحمة مرتين فى الشهر بالعافية، وكنا بنقول الحمد لله لكن الأسعار زادت قوى والأدوية اللى زادت أضعاف أضعاف يعنى مفيش فرصة نعيش طبيعى، كل حاجة زادت، بس المرتبات ثابته أنا عايشة على قد مرتبى ورافضة الدروس الخصوصية تمامًا، ولكن أعمل أيه مفيش حلول واضحة، وبقينا بنحسب كل حاجة».
وأما داليا صاحبة الـ 38 عامًا فقالت: أنا وزوجى نعمل فى مؤسسة خاصة لكن رواتبنا لا تكفى لتلبية أبسط احتياجات الحياة، لدينا طفلتان، بنوفر نفقات الحضانة أوالعلاج وحتى الطعام والمواصلات بالعافية، بنحلم نعلم ولادنا تعليم جيد، ندخلهم مدارس محترمه تعرف معنى التربية قبل التعليم لكن المدارس الحكومية حالة لا يُرسى لها، والخاصة بعيدة عن إمكانياتنا، كل ما نريده هو تأمين حياة كريمة لأطفالنا، نوفر لهم فيها الأكل، العلاج، والتعليم، لكن الغلاء يطحننا، والظروف تسحق أحلامنا البسيطة، نصرخ فى صمت: كيف نربى أبناءنا بكرامة وسط كل هذا العجز؟.
وبدأت «سحر» موظفة حكومية وأم لطفلين، حديثها قائلة: أنا بقبض على قدى، والمواصلات بقت تلت المرتب، أعمل إيه؟ أوصل الشغل إزاى؟، وحتى الأكل والخضار العادى بنعانى عشان نجيبه والفاكهه بقت رفاهية، بقينا نحسبها بالأيام».
عم على البقال «اللى بيستلفوا اكتر من اللى بيشتروا»
ومن داخل محل سلع غذائية صغير «بقالة» تحدث «عم على» مالك المحل، وقال بنبرة يأس: «فيه زباين بقوا يشتروا بكميات قليلة جدًا.. نص كيلو رز، كيس سكر صغير.. واللى بيستلفوا بقى أكتر من اللى بيشتروا». من جانبه، يؤكد صاحب سلسلة محال للسلع الغذائية، أن ارتفاع الأسعار أثر بشكل كبير على حركة البيع والشراء.
كما أكد أن سلوك المستهلكين تغير بشكل كبير قائلًا: «حوالى أكثر من 50 % من الزبائن يشترون الأساسيات ببطاقات الائتمان» وكان من المفترض أن تُستخدم فى شراء الأجهزة أو تجهيزات الزواج.
وأضاف أن الطبقة المتوسطة التى كانت تعيش حياة كريمة قل استهلاكها بشكل كبير، وأصبحت تكتفى بشراء بالضروريات فقط. وأشار إلى أن الإقبال على مُنتجات مثل الجبن الفاخر واللانشون الجيد تراجع كثيرًا، وأغلب الزبائن يشترون بالكاد القليل من الجبن الأبيض.
فى كل سوق شعبى، وفى كل بيت مصرى، تدور نفس الأسئلة: «إلى متى سيظل المواطن يتحمل كل عبء الإصلاح والأزمات الأقتصادية ومتى يجد الفقير من يشعر به؟». حتى تأتى الإجابة، تبقى أم محمد ومريم وغيرهن من ملايين النساء، فى مواجهة يومية مع الأسعار، بحثًا عن لقمة عيش تحفظ لهن ولأسرهن أبسط حقوقهن فى الحياة الكريمة.
على الجانب الاخر.. البائعون: «إحنا كمان ضحايا»
رغم أن أصابع الاتهام تتجه دومًا نحو التجار لأن أغلبهم يستغل الأزمات الاقتصادية ورفع أسعار السولار ويرفع الأسعار أكثر ويحتكر السوق، مما يساهم فى تفاقم الأزمة، إلا أن بعض البائعين الصغار فى السوق يرون أنفسهم متضررين من تلك الأزمات التى تمر بها البلاد.
فى ركن اللحوم بالسوق، يقف الحاج أسامة، جزار منذ 30 عامًا، يراقب الزبائن وهم يمرون دون شراء، والذى أكد وجود حالة ركود تامة خلال اليومين الماضيين بعد ارتفاع أسعار البنزين، مقارنة بالفترة الماضية، الزيادة مش قليلة ربنا يلطف بالناس.
«الناس بقت تدخل تسأل عن السعر وتمشى، أسعار اللحوم ارتفعت، الزبون بقى يطلب ربع كيلو وهو فى خجل إن كان ينفع ياخد ربع ولا لا».
وأضاف كل ما البنزين يزيد، المواصلات والنقل بتغلى والزيادة فى 30 ٪ فى أسعار اللحوم نسبة عالية، واللى بيدفع الثمن فى الآخر هو المواطن.
وأكد على أن ثمن «العجل واقف» أرتفع بشكل مبالغ فيه، نعمل إيه قاعدين لابنبيع ولا بنشترى».
وعلى أحد الأرصفة تجلس «أم حامد»، بائعة خضار فى العقد الخامس من عمرها، تحاصرها متاعب المرض والغلاء تقول وهى تمسح عرقها بطرحتها البسيطة: «انا مريضة سكر، ومبقتش قادرة أشترى العلاج، عندى خمسة أولاد، وكنت دايمًا أصبر نفسى إنى بصرف عليهم، بأكلهم وأشربهم وأعلمهم، دلوقتى مش قادرة على مصاريف التعليم». وأضافت أن نجلتها الكبرى سيتم فسخ خطبتها، لعدم قدرتها على تجهيزها، وبعد ارتفاع السولار الخضار غلى والناس بقت تيجى تشترى بالربع كيلو وناس تسأل وتمشي، وأنا كمان غصب عنى غليت الأسعار عليّ، كنت بأأجر تروسيكل كل يوم بـ100 جنيه علشان ينقللى الخضار للفرشة، بعد زيادة البنزين بقى بـ150، وكمان أسعار الخضار زادت، فاضطريت أقلل الكمية اللى بشتريها.
وأضافت أن سعر أسطوانة الغاز رفع من 175 لـ 225 واختتمت حديثها قائلة «ليه ليه كل الغلاء ده، أكل عيشى هو بيع الخضار أعمل إيه؟ الحال واقف وأنا عايزة أصرف على عيالى الشغل واقف والناس بتتخانق على الأسعار، بس إحنا مش بنغلى من نفسنا، الغلا جاى علينا قبلهم.
«صاحب محل دواجن الناس تعبانة»
أكد محمد صاحب محل دواجن، أن الشغل واقف تمامًا اليومين دول، وقال إن حتى الهياكل اللى كانت أرخص حاجة الناس بطلت تشتريها، وبقى يمر وقت طويل قبل ما يدخل زبون، الناس خرجت من رمضان والعيد تعبانة من المصاريف، وبدل ما يلتقطوا أنفاسهم، الحكومة فجأتهم برفع أسعار البنزين، واللى خلى كل حاجة تغلى أكتر، الوضع بقى صعب جدًا، والناس مش عارفة تعمل إيه.. يا ترى المطلوب منهم يبطلوا ياكلوا خالص.





