باب السماء
الشيخ الحصرى.. رتل القرآن داخل الكونجرس الأمريكى

استمرت رحلة الشيخ محمود خليل الحصرى مع كتاب الله ما يقرب من 55 عاماً منذ أن خرج للدنيا، لم يرض أن يكون قارئاً فقط صاحب صوت يهز الوجدان، فبالرغم أنه لم يحقق فى دولة التلاوة وخلال عصرها الذهبى شهرة أو شعبية مثل التى تحققت لرواد كالشيخ محمد رفعت وعبدالفتاح الشعشاعى، وأبوالعينين شعيشع، أو التى صاحبت معاصريه من القراء مثل الشيخ كامل يوسف البهتيمى ومحمد صديق المنشاوى وعبدالباسط عبدالصمد، لكنه تفوق على الجميع بكونه أول من سجل القرآن مرتلاً بين قراء عصره بروايات ثلاث هى حفص وورش وقالون، مما جعل إذاعة القرآن الكريم تركن إلى ترتيله خاصة فى تسجيل القرآن بروايتى حفص وورش، وقد شغفه علم القراءات حتى أصبح علماً فيه له مؤلفات تدرس، زادت على 11 كتاباً تتعلق بعلوم القرآن.
ولد الشيخ «الحصرى» بقرية شبرا النملة فى السابع والعشرين من شهر سبتمبر عام 1917م، وهى إحدى قرى محافظة الغربية وتقع إلى الغرب من مدينة طنطا عاصمة المحافظة، نشأ الصبى «محمود» ليجد أباه يعمل فى صناعة الحصير، وعندما أتم الصبى الخامسة من عمره ألحقه والده بكتاب القرية، وعندما أظهر الصبى نبوغاً فى حفظ القرآن ألحقه والده بمسجد سيدى أحمد البدوى بمدينة طنطا ووجد الطالب الصغير مراجع علم القراءات بالمسجد، فأتقن حفظ أكثر من قراءة واحدة، حتى أتقن تلاوة القرآن بالقراءات العشر الصحيحة وهى قراءات حفص وحمزة وعاصم وابن عامر وابن كثير ونافع والكسائى ويعقوب وخلف وأبى عبيد، فلما اجتمع له حسن الصوت مع التبحر فى علم القراءات، بدأ رحلته مع تلاوة القرآن بين شبرا النملة وطنطا، وكان قد بلغ طور الرجولة فى مطلع العشرينات من عمره، فذاع صيته فى طنطا ومدن الأقاليم المجاورة ليصل إلى القاهرة فى الأربعينيات الأولى.
مثل الشيخ الحصرى أمام لجنة اختيار القراء الجدد بالإذاعة فى شتاء عام 1944، وقد أجازته اللجنة بلا تردد ليكون من قراء الإذاعة، وعندما أقر الشيخ الحصرى كقارئ للسورة بمسجد الإمام الحسين بالقاهرة نقل الشيخ مقر إقامته للقاهرة ليكون قريباً من عمله الجديد.
تولى الشيخ الحصرى العديد من الوظائف بعد انتقاله للقاهرة، فقد عين مفتشاً على المقارئ المصرية عام 1957، وأقر وكيلاً للمقارئ المصرية عام 1958 م، واختير مراجعاً ومصححاً للمصاحف بمشيخة الأزهر فى عام 1959 م، وعين شيخاً لعموم المقارئ المصرية عام 1960 م ووقع اختيار وزارة الأوقاف عليه فى عام 1961 م ليكون مستشاراً فنياً بها لشئون القرآن، وكلفته الحكومة المصرية عام 1960 بزيارة الهند وباكستان وقراءة القرآن الكريم فى المؤتمر الإسلامى الأول فى الهند بحضور كل من الرئيسين جمال عبدالناصر وجواهر لال نهرو وحضور زعيم المسلمين بالقاهرة الهندية، وزار الشيخ الحصرى العديد من الدول العربية مثل المملكة العربية السعودية والكويت وسوريا وقطر والمغرب، وامتدت زياراته لدول العالم من الصين وماليزيا شرقاً وعبر فرنسا وبريطانيا وحتى الولايات المتحدة الأمريكية فى أقصى الغرب ليبلغ تأثير مدرسة الشيخ مداه فى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث رتل القرآن الكريم داخل مبنى الكونجرس الأمريكى وكان فى زيارة مع شيخ الأزهر د. عبدالحليم محمود رحمه الله، وأذن لصلاة الظهر بمقر الجمعية العامة للأمم المتحدة فى مدينة نيويورك، وأسلم على يديه ثمانية عشر من الأمريكيين وعشرة من الفرنسيين،وتميز الشيخ الحصرى بأوليات كثيرة،فهو أول من سجل القرآن برواية حفص عن عاصم وأول من سجل القرآن برواية ورش عن نافع، وأول من سجل القرآن المعلم، وأول من رتل القرآن بطريقة المصحف المفسر، وأول من رتل القرآن فى الأمم المتحدة، وأول من رتل القرآن فى القصر الملكى فى لندن، وللشيخ الحصرى مجموعة كبرى من المؤلفات التى سجل فيها علمه من خلال دراساته المكثفة فى القرآن وعلومه المختلفة، وقد قام المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بطباعة بعض هذه الكتب فى سلاسل بأثمان زهيدة لتيسيرها للقاعدة العريضة من الجمهور، ومن أهم هذه المؤلفات: «أحكام قراءة القرآن الكريم، القرءات العشر من الشاطبية والدرة، معالم الاهتداء إلى معرفة الوقف والابتداء، الفتح الكبير فى الاستعاذة والتكبير، أحسن الأثر فى تاريخ القراء الأربعة عشر، مع القرآن الكريم، قراءة ورش عن نافع المدنى، قراءة الدورى عن أبى عمرو البصرى، نور القلوب فى قراءة الإمام يعقوب، السبيل الميسر فى قراءة الإمام أبى جعفر، وحسن المسرة فى الجمع بين الشاطبية والدرة، والنهج الجديد فى علم التجويد، رحلاتى فى الإسلام».
كرمت مصر الشيخ الحصرى بمنحه وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى تقديراً لإسهامه فى المصحف المرتل وفى عام 1968 اختاره ممثلو الدول الإسلامية أثناء انعقاد المؤتمر الأول لاتحاد قراء العالم الإسلامى للقرآن الكريم رئيساً للاتحاد وظل رئيساً له حتى رحيله.
ومن الذكريات كان الملك الحسن الثانى فى المغرب قد استن سنة حميدة لإحياء ليالى رمضان وذلك بإلقاء الدروس الدينية، فيما عرف باسم «المجالس الحسنية» ولذا طلب ملك المغرب فى أحد الأعوام أن يكون القارئ لهذه الدروس هو الشيخ الحصرى، ولما علم الملك أن الشيخ قد ارتبط مع دولة قطر لإحياء ليالى رمضان هناك، اتصل جلالته بأمير قطر، واستأذنه فى أن يكمل ليالى رمضان بالتلاوة فى المغرب، فوافق أمير قطر وأذن للشيخ الحصرى بالسفر إلى المغرب وتقديراً لدوره فى خدمة القرآن على المستويين العربى والإسلامى حصل الشيخ الحصرى على العديد من الأوسمة والنياشين من ملوك ورؤساء الدول العربية والإسلامية، واختارته الحكومة السعودية لافتتاح الحفل الرسمى لإضاءة مكة المكرمة بالكهرباء عام 1954، وذلك بدعوة رسمية وظلت عادة الشيخ الجليل عقب كل سفر من سفرياته أن تعقبها عمرة بالأراضى الطاهرة، وقبل وفاته قام الشيخ الحصرى بتشييد مجمع دينى بقريته «شبرا النملة» وآخر بجوار بيته بالقاهرة يشمل مسجداً ومعهداً دينياً ومدرسة لتحفيظ القرآن وأوصى بثلث تركته لخدمة القرآن الكريم وحفاظه وأوجه الخير.
وفى مساء يوم الاثنين السادس عشر من المحرم لسنة 1401 هـ، الموافق الرابع والعشرين من نوفمبر سنة 1980 بعد أن أدى رسالته فى خدمة القرآن وعلومه لمدة تقترب من خمسة وخمسين عاماً.