رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيس التحرير
ياسر شورى
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيس التحرير
ياسر شورى

إن حادثة الرابع من فبراير عام 1942، التي جرت فصولها في قصر عابدين بالعاصمة المصرية القاهرة، ليست مجرد صفحة في سجل التاريخ السياسي لمصر، بل هي جرح عميق في كرامة الأمة وهيبتها، وشهادة لا تمحى على بشاعة التدخل الأجنبي السافر في أدق شؤون البلاد. 

إنها لحظة تاريخية فارقة، كشفت بوضوح مدى وهن "الاستقلال" الممنوح بموجب معاهدة عام 1936، وأكدت بما لا يدع مجالا للشك أن قرار مصر السيادي كان لا يزال مرتهنا بيد المندوب السامي البريطاني.

في خضم الحرب العالمية الثانية، ومع اقتراب قوات "المحور" بقيادة إرفين رومل من العلمين، شعرت بريطانيا، الحليف الواهم، بالخطر الداهم. 

لم يكن قلقها على سلامة مصر قدر قلقها على مصالحها الاستراتيجية، ولذلك رأت أن الأجدر بمصر أن تحكمها وزارة قوية تحظى بتأييد شعبي واسع، وتكون موالية نصا وروحا لمعاهدة التحالف، لضمان استقرار الجبهة الداخلية وتقديم كل التسهيلات للقوات البريطانية.

وفي نظر لندن، لم يكن هناك حزب قادر على تلبية هذه المتطلبات سوى حزب الوفد بزعامة مصطفى النحاس باشا، لما كان يتمتع به من قاعدة شعبية جارفة.

كانت رغبة بريطانيا، التي وصلت عبر سفيرها في القاهرة السير مايلز لامبسون، بمثابة أمر إلزامي لا يقبل النقاش للملك الشاب فاروق الأول. 

الملك، الذي كان يرى في نفسه رمزا لاستقلال البلاد وهيبتها، حاول المناورة بتشكيل "وزارة قومية" أو "ائتلافية" تجمع كل الأطياف، لتجنب الانصياع الكامل للإملاءات البريطانية، وللتحايل على منح الوفد، الذي كان يخشى سيطرته على الحكم، فرصة الانفراد بالسلطة، لكن لعبة الدبلوماسية الملكية لم تخدع الإنجليز، الذين كانوا يتأهبون لمواجهة حاسمة.

ما حدث في الرابع من فبراير هو مسرحية درامية قاسية، تجسدت فيها كل معاني الاستعلاء والغطرسة، وصل لامبسون برفقة قائد القوات البريطانية الجنرال ستون، وسيارات الجيش البريطاني والدبابات تحاصر قصر عابدين، رمز السيادة المصرية. 

لقد دخل السفير إلى مكتب الملك، ليس كممثل لدولة حليفة، بل كحاكم مطلق، يضع أمام ملك البلاد وثيقة التنازل عن العرش ليوقع عليها، كخيار أوحد أمام تكليف النحاس بتشكيل الحكومة الوفدية.

هذه اللحظة، التي اهتزت فيها جدران القصر الملكي، كانت وصمة عار على جبين العرش، تردد الملك لثوان معدودة، ربما فكر في كرامته أو في مصير بلاده، لكن شبح العزل والمنفى كان أقوى، فاستسلم في النهاية لهذا الابتزاز السياسي والعسكري الفاجع، وافق على استدعاء النحاس وتكليفه بتشكيل وزارة وفدية خالصة، ليتجنب التنازل عن عرش الأسرة العلوية.

لقد وضع الملك فاروق توقيعه ليس فقط على مرسوم تشكيل الوزارة، بل وضع توقيعه على شهادة تفيد بأنه مجرد رمز أجوف، وأن السلطة الحقيقية تكمن في يد المندوب السامي، وأن الكرامة الوطنية يمكن أن تداس تحت جنازير الدبابات. 

كانت تلك الحادثة بمثابة صدمة كهربائية أيقظت قطاعات واسعة من المصريين، خاصة الشباب والوطنيين في الجيش، ليدركوا أن طريق التحرر الحقيقي يمر حتما عبر إسقاط الاحتلال، وإلغاء المعاهدات، وتطهير البلاد من الحكم المرتعش الذي يركع أمام الإنذارات.

لقد أثبتت الحادثة أن التناقض الأساسي في المشهد المصري لم يكن بين القصر والأحزاب، بل كان بين إرادة الشعب المصري في الاستقلال الكامل، وقوة الاحتلال البريطاني التي لا تتردد في استخدام القوة الغاشمة لفرض إرادتها. 

لم يكن النحاس باشا، زعيم الأغلبية، بريئا تماما في هذه المعادلة، فقد قبل تشكيل الوزارة تحت ضغط البنادق البريطانية، وهو ما أفقده جزءا كبيرا من رصيده الوطني، وجعل الوفد يدفع ثمنا باهظا من شعبيته الطويلة، إذ وصم في نظر الكثيرين بالتعاون مع المحتل تحت وطأة الضرورة السياسية.

وتبقى ذكرى الرابع من فبراير عام ١٩٤٢ محفورة في الذاكرة القومية، لتعلم الأجيال أن الاستقلال لا يوهب، بل ينتزع، وأن غياب القوة الذاتية والوحدة الوطنية الحقيقية يترك الأمة عرضة لأي تدخل أجنبي مهما كان حجمه. 

لقد كانت هذه الحادثة الشرارة التي أشعلت جذوة التمرد في القلوب، ومهدت الطريق، ولو بعد حين، للثورة التي أطاحت بالعرش والاحتلال معا. 

إنها صفحة سوداء يجب أن تقرأ جيدا، لا بدموع الوطنية الزائفة، بل بعين البصيرة التي تدرك أن السيادة الوطنية ثمنها باهظ، ولا يقبل المساومة.