سعد زغلول باشا، هذا الاسم الذي يسطع في تاريخ مصر كأحد أعظم رجالها الوطنيين، لم يكن مجرد سياسي أو وزير، بل كان روح مصر الحية، وضميرها الذي لا يهدأ.
ولد سعد إبراهيم زغلول عام 1858 في قرية أبيانة بمركز فوه، وترعرع في بيت تعليمي وروحي، حيث فقد والده وهو طفل صغير، فتكفلته والدته وخاله، ليبدأ حياته بين كتب القرآن ومبادئ الحساب في الكتاب، قبل أن يلتحق بالجامع الدسوقي ثم الأزهر الشريف، حيث تلقي علوم الدين وحضر مجالس جمال الدين الأفغاني، واحتك بعالم الإصلاح الديني الشيخ محمد عبده الذي أصبح صديقا له ومعلمه في السياسة والدين والبلاغة.
حياته العملية بدأت في التحرير الصحفي، محررا للقسم الأدبي في صحيفة الوقائع المصرية بين 1880 و1882، قبل أن تتجه الحكومة لاستغلال مهاراته القانونية، فعين معاونا لنظار الداخلية ثم ناظر قلم الدعاوي في الجيزة، وظهرت موهبته في النقد القانوني وحل القضايا.
ومع قيام الثورة العرابية، لم يتردد سعد في دعم الوطنيين، فكتب وأرسل الأخبار لعرابي، وبعد فشل الثورة واجه الفصل من وظيفته وفتح مكتب محاماة، رغم اضطهاد الاحتلال والخديوي له واعتقاله في يونيو 1883 بتهمة الانتماء لجمعية سرية، إلا أنه خرج ليواصل الدفاع عن وطنه من خلال القانون.
مع الوقت، التفتت الأنظار إلى قدراته، فعين وكيلا لأعمال الأميرة نازلي فاضل، ثم نائب قاض في محكمة الاستئناف، ودرس الفرنسية، وتزوج صفية ابنة مصطفى فهمي باشا.
لم يكتف سعد بالقضاء المحلي، بل حصل على ليسانس الحقوق من فرنسا عام 1897، وواصل عمله في القضاء أربع عشرة سنة، حتى وصل إلى مرتبة المستشار، وكان مثال العدالة والنزاهة، يعمل في دوائر الجنايات الكبرى والاستئناف ومحكمة النقض.
في أواخر حياته الوظيفية، بدأ سعد باشا يترك بصمته في السياسة والتعليم، حين اختير وزيرا للمعارف عام 1906، وساهم في تأسيس الجامعة المصرية، ورفع ميزانية التعليم لمواجهة الأمية، وأعاد اللغة العربية إلى المناهج.
وفي سنوات لاحقة تقلد وزارات الداخلية والعدل، محافظا على كرامة القضاة وسامية مهنة المحاماة، لكنه استقال نتيجة اصطدامه المستمر بالاحتلال البريطاني.
ومع تأسيس الجمعية التشريعية عام 1913، أصبح رئيسها، إلا أن بريطانيا عملت على إقصائه ومنعه من ممارسة سلطته الوطنية، لتبدأ رحلة صموده الطويلة.
بعد الحرب العالمية الأولى، ومع إعلان الرئيس الأمريكي ولسون مبدأ حق تقرير المصير، اجتمع سعد مع الوطنيين لتشكيل الوفد المصري، الذي جمع توكيلات الشعب المصري لمطالبة بريطانيا بالاعتراف باستقلال مصر، إلا أن الاحتلال رفض، ونفي سعد إلى مالطة، لتندلع ثورة 1919 التي شملت جميع فئات الشعب من طلاب وعمال وفلاحين، واضطر الاحتلال لإطلاق سراحه والسماح للوفد بالسفر إلى مؤتمر الصلح في باريس، حيث واصل سعد النضال، مخاطبا برلمانات الدول الأوروبية، رافضا أي استقلال شكلي لمصر، ومتمسكا بحق الشعب المصري في تقرير مصيره.
لم تتوقف معارك سعد مع الاحتلال عند هذا الحد، فقد أرسل تعليماته من باريس لتوحيد الشعب ضد أي محاولات تفاوض مع بريطانيا، فاستمر النضال الشعبي من خلال مقاطعة البضائع الإنجليزية، وامتدت الثورة لتصل إلى أوجها بعد نفيه مرة أخرى إلى جزيرة سيشل، لتفرض السلطات البريطانية في النهاية التفاوض مع الوفد، إلا أن سعد رفض أي معاهدة تمنح مصر استقلالا شكليا، مؤكدا أن الاستقلال الحقيقي لا يتحقق إلا بموافقة الشعب وسلطته الوطنية.
وبعد إعلان تصريح 28 فبراير 1922، الذي منح مصر استقلالا محدودا، بدأت مرحلة جديدة، فقادت لجنة الوفد لوضع دستور 1923، ليصبح الشعب المصري مصدر السلطات، وهو إنجاز لم يكن ليتم لولا رؤية وإصرار سعد باشا.
وعندما جرت الانتخابات العامة بعد الدستور، فاز الوفد بأغلبية ساحقة وشكل سعد أول وزارة شعبية دستورية في تاريخ مصر، مطبقا سياسات تهدف إلى إحلال الموظفين المصريين، تعزيز التعليم، تحرير الاقتصاد من السيطرة الأجنبية، ودعم الوحدة الوطنية مع السودان، متحديا الاحتلال البريطاني في كل خطوة.
واستمر سعد باشا في قيادة مصر حتى وافته المنية في 23 أغسطس 1927، تاركا إرثا من الوطنية الحقيقية، العدالة، والإصرار على حق الشعب في تقرير مصيره، ونقل لاحقا ضريحه إلى بيت الأمة، ليظل رمزا خالدا لمصر ومصدر إلهام لكل مصري يسعى للحرية والسيادة الوطنية.