عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

عصف فكرى

«فى بيتنا رجُل واحد» رواية من أسوأ ما كتب إحسان عبدالقدوس فى حياته. لا أعنى هنا مستوى الأدب ولا اللغة ولا بناء الشخصيات، وإنما أعنى الرمز والرسالة والهدف. لقد ذاعت الرواية وسطعت ثم تحولت عام 1961 إلى عمل سينمائى ناجح، قام ببطولته عمر الشريف، وزبيدة ثروت، ورشدى أباظة، وحسن يوسف.

والقصة ببساطة بطلها إبراهيم حمدي، وهو شاب وطنى مندفع، يطلق الرصاص على سياسى مصرى متهما إياه بالخيانة لأنه يتعامل مع الإنجليز، ثُم يهرب من الشرطة ويختبئ لدى أسرة مصرية عادية، لتنشأ بينه وبين فتاة من الأسرة قصة حب ملتهب، ويسعى كل أفراد الأسرة إلى تهريبه وحمايته باعتباره بطلا عظيما.

والحكاية مأخوذة من قصة حقيقية هى قصة حسين توفيق، الذى شارك صبية وشبابا فى حى المعادى فى إدارة تنظيم إرهابى سرى وقاموا باغتيال أمين عثمان بدعوى علاقته بالإنجليز سنة 1946، وحاولوا اغتيال مصطفى النحاس عدة مرات وفشلوا.

وفى حقيقة الأمر، فإن إحسان عبدالقدوس لم يعتذر عن القصة، كما أن صناع الفيلم لم يعتذروا، بل إن الدولة المصرية فى الستينات احتفت بالفيلم باعتباره يشين العهد السابق. وكل هذا طبيعى جدا لأننا لم نعرف يوما فى بلادنا ثقافة الاعتذار بأثر رجعى أو فضيلة المراجعة والنقد الذاتى.

والسوء المقصود هنا فيما كتبه إحسان هو أنه حوّل مجرما جامحا ومهووسا إلى بطل، وقدمه للرأى العام باعتباره نموذجا وقدوة للشباب الراغب فى تحقيق آماله فى الوطن. لكن أحدا لم يلتفت إلى أن الفعل نفسه لم يكن يمثل بطولة، لأن القاتل السياسى يطلق النار غدرا على شخص ما، دون أن يمنحه حق الدفاع عن نفسه. والأمر برمته يدفع إلى الفوضى، وسفح للدم بلا معنى. ناهيك عن أن الاغتيال السياسى لا يؤدى أبدا إلى إصلاح.

فضلا عن أن القصة ـ كما ذكرنا سالفا ـ مستقاة من حكاية إرهابى دموى هو حسين توفيق الذى تم تهريبه إلى سوريا. لكن أحدا لم يسأل عن مآلات هذا الإرهابى فيما بعد، ففى دمشق حاول اغتيال رئيس الحكومة أديب الشيشكلى وأطلق عليه الرصاص، فحكم عليه بالإعدام، ثم أفرج عنه وأعيد إلى مصر بعد ثورة يوليو، لكنه عاد لممارسة دمويته وأنشأ تنظيما جديدا للانقلاب على الدولة المصرية واغتيال جمال عبدالناصر، وقبض عليه مرة أخرى وظل فى السجن حتى نهاية عهد السادات، ثم أفرج عنه ومات منبوذا.

وما فعلته الرواية والفيلم هو تكرار لـ ثيمة راسخة فى العقل العربين وهى الاحتفاء بالمجرمين والقتلة.

وجميعنا عرفنا فصولا أخرى سواء فى إنشاد المواويل الشعبية عن قاطع الطريق ياسين، أو خليفته اللص البلطجى أدهم الشرقاوي، وصولا لتأليف أحمد فؤاد نجم قصيدة فى مدح قتلة الرئيس أنور السادات، واعتبارهم أبطالا.

وهذه السمة الغريبة فى مجتمعاتنا تستحق التوقف والتأمل والتدبر.

***

فى التراث الفلسطينى ثمة احتفاء شعبى متكرر بشخصين شهيرين هما «أبوجلدة» و«العراميط». وفى حقيقة الأمر فإن هذين الرمزين ليسا سوى لصين تميزا بالشجاعة والعنف الشديد، وإن كان الخيال الشعبى قد نسج حولهما قصصا أسطورية حولتهما إلى بطلين عظيمين. ففى الأمثال الشعبية الفلسطينية مثلا يقول «أبوجلدة والعراميط، ياما كسروا برانيط»، ما يعنى أنهما قهرا المحتلين الأجانب.

ومثلهما مثل أدهم الشرقاوى فقد كونا فى ثلاثينيات القرن العشرين عصابة كبيرة اعتادت السرقة وقطع الطريق وسلب العابرين وفرض الإتاوات. وربما أصابت فى بعض عملياتها جنود الاحتلال البريطاني، وكثيرا من أثرياء فلسطين فى ذلك الوقت. ورغم نهاية قصتهما بما يشبه نهايات معظم المجرمين المشاهير حيث قبض عليهما ونُفذ فيهما حكم الإعدام، إلا أن الناس أبت اعتبارهما لصين، واحتفت بهما ولا تزال.

وفى أقطار عربية أخرى يحتفى الناس بسير كثير من السفلة، والخارجين عن القانون، ويعظمونهم بما يجعلهم بمثابة قدوة لبعضهم.

ولا شك أن ذلك ينتشر أكثر فى المجتمعات الأقل دخلا والأكثر إحتياجا، لكن الواضح جدا أن تمجيد القتلة والأقوياء يمثل قانونا عاما فى المجتمعات ضعيفة التعلم.

والمؤسف هنا أن الفن والإبداع والسينما تساير الشوارع العربية فى نفخ البطولات الوهمية، وإعادة بعثها وتعظيمها، على حساب أساطين وعباقرة عظماء منسيين دائما وأبدا من أمثال أهل الفكر والعلوم والمبتكرين وأصحاب الرؤى الإصلاحية.

***

تتباين التفسيرات حول أسباب تبطيل القتلة وتمجيد المجرمين فى الثقافة العربية وأبرزها وضوحا هو أن ثقافة القبيلة هى الحاكمة والمسيطرة على المجتمعات رغم رياح الحداثة. فالقبيلة تحتفى بالأفراد الأقوياء والشجعان، لا المتأملين الأذكياء. والقبيلة تؤمن بالقوة لا الحق، فالقوة هى التى تفرض كل شئ، والاحترام المفترض يكون للأقوياء أيا كان منطقهم.

كذلك، فإن ضعف الثقة فى الروايات الرسمية للأحداث يدفع الغالبية العظمى من المجتمعات العربية إلى تبنى روايات الخارجين عن القانون بشأن أفعالهم بل والمزايدة عليها لتصويرهم هؤلاء الخارجين باعتبارهم أبطالا أسطوريين.

لكن الأوضح من ذلك أن مناهج التعليم لدى كثير من بلداننا تحتاج لمراجعات واضحة تستبعد فكرة البطولة القتالية وتستبدلها بالبطولة الفكرية والعلمية، فترفع من مناهجنا القصص المقررة على الأطفال الصغار فى المدار عن سير خالد بن الوليد، وعقبة بن نافع، وطارق بن زياد باعتبارهم أفضل رموزنا، وتستبدلهم بأناس مثل ابن سينا، الفارابي، ابن الهيثم، ابن خلدون، وابن رشد.

إن المؤسسات الرسمية معنية بمستقبل المجتمعات وبالفكر السائد، والسير على خُطى تبطيل أدهم الشرقاوي، وتعظيم أبى زيد الهلالي، وتمجيد ريا وسكينة لن تؤدى سوى لانتاج المزيد من القتلة والمهووسين.

والله أعلم.

[email protected]