رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

السودان فى مفترق طرق ما بين سيناريوهات الدولة الصومالية الفاشلة إلى الدولة الليبية المنقسمة

الحرب السودانية دليل دامغ على أهمية وجود جيش وطنى موحد

مع استمرار الاقتتال للعام الثانى.. هل يصل السودان لنقطة «اللاعودة»

أنهت الحرب فى السودان عامها الأول، ودخلت عامها الثانى بعدما تسببت الحرب فى معاناة إنسانية فظيعة، تم تدمير البنية التحتية وانتشر النهب والسلب ونهب الممتلكات والمنازل والمؤسسات الخاصة. إلى جانب أكبر موجة نزوح إنسانى داخلى وخارجى، حيث نزح مئات الآلاف من السودانيين داخليا، وكذلك اتجه آلاف آخرون إلى اللجوء إلى البلدان المجاورة، والهرب فى ظل ظروف صعبة. وتعرض أولئك الذين حاولوا العبور إلى تشاد من غرب دارفور للهجوم. وتجاوز النزوح الإنسانى فى السودان فى عام واحد فقط عدد النازحين فى سوريا البالغ 7.2 مليون، وفى آخر تقرير محدث لـ«منظمة الهجرة الدولية» فى مطلع أبريل الجارى، أشار إلى نزوح نحو 6.5 مليون شخص داخل السودان منذ بداية الحرب فى 15 أبريل 2023، فى ولايات السودان المختلفة البالغ عددها 18 ولاية، حظيت منها ولايات جنوب دارفور بأعلى نسب نزوح داخلى، بينما بلغ عدد اللاجئين إلى دول الجوار 1.96 مليون، وفقًا للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة. كما خلفت الحرب الالاف القتلى من المدنيين تجاوز عددهم نحو الـ 15 ألف سودانى، وإذا تم حصر وإضافة القتلى من طرفى القتال فى السودان فعدد ضحايا الحرب فى عام واحد مرشحة للتضاعف، ويكفى للتدليل لجوء عديد السودانيين لدفن موتاهم من ضحايا القتال فى المنازل والطرق العامة والمقابر الجماعية لأن الطرق إلى المقابر غير آمنة على الاطلاق من جانب، ومن جانب آخر احتلت القوات المتحاربة المقابر كملاذات آمنة. بما ينذر بكارثة بيئية محققة.

كما يواجه السودان شبح «مجاعة وجفاف» مدمر نتيجة الاقتتال الدائر والمستمر على مدار عام كامل بين قوات الجيش السودانى، وميليشيات الدعم السريع، حيث يعانى نصف السكان - أكثر من 25 مليون شخص - من انعدام الأمن الغذائى، نتيجة تدمير القدرة الإنتاجية للبلاد، من المزارع إلى المصانع، مما ترك الاقتصاد فى حالة يرثى لها. وبحسب تقييم الأمم المتحدة، يمثل السودان أكبر أزمة نزوح وأكبر أزمة غذائية فى العالم اليوم. ولكن حتى من خلال هذه التدابير القاتمة، فإن الوضع بالنسبة للشعب السودانى والمنطقة ككل من المتوقع أن يصبح أسوأ بكثير مع استمرار القتال للعام الثانى.

فيما تهدد حالة الاستقطاب الحاد بتمزق نسيج المجتمع السودانى، خاصة فى مناطق مثل دارفور لم تتعاف بعد من 20 عامًا من الدمار والحروب. واستمرار أمد الحرب سوف يزيد من تقسيم المجتمعات بما يجعل العودة إلى الحياة الطبيعية أمرًا صعبًا للغاية ما بعد وقف إطلاق النار وانتهاء الأعمال القتالية.

تاريخ ممتد من الحروب الأهلية وفشل المراحل الانتقالية

يمثل السودان نموذج حالة لتعدد الحروب الأهلية والمراحل الانتقالية وفشل تجارب التحول الديمقراطي؛ فالمرحلة الانتقالية التى بدأت عام 2019 ما بعد سقوط نظام عمر البشير ليست الأولى، لكن على الرغم من تعدد خبرات المراحل الانتقالية فى السودان على مر تاريخه، لا يزال يتكرر ذات الأخطاء التى تؤدى على فشل التحول الديمقراطى دون استيعاب لتلك الأخطاء والعمل على عدم تكرارها.

قمة وذروة هذا الفشل فى التحول الديمقراطى كانت فى عام فى عام 2011 عندما صوت السودانيون الجنوبيون بأغلبية ساحقة للانفصال عن الشمال، ليشهد السودان التقسيم الأول، ويتعرض الان لخطر التقسيم الثانى. ومنذ ذلك الحين، استمرت الصراعات فى دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق.

لكن أزمات فشل الاندماج الوطنى والتحول الديمقراطى فى السودان بدأت قبل فترة طويلة من انفصال جنوب السودان، مرت البلاد بصراعات عنيفة مستمرة، وحروب أهلية، وأنظمة سياسية غير مستقرة، وتناوبت فترات الانقلابات العسكرية والديمقراطيات المتعددة الأحزاب قصيرة الأجل.

وبين عامى 1956 وحتى عام 2019، شهد السودان ثلاث حكومات ديمقراطية قصيرة (1956-1958، 1964-1969 و1986-1989) وحكم عسكرى طويل الأمد نسبيا مقارنة بالحكم المدنى الديمقراطى (1958–

1964, 1969–1985 1989–2019). ثم وصلت الجبهة الإسلامية إلى السلطة فى يونيو 1989 عبر انقلاب عسكرى ليبدأ فصل آخر من عدم الاستقرار الذى طال أمده، حاملًا معه الانقسام فى السياسات، ومزيد من الصراعات والإبادة الجماعية، واتسم معظم تاريخ السودان بعد الاستقلال كان يهيمن عليها الجيش. باستثناء الانقلاب العسكرى الأول اللواء إبراهيم عبود (1958–1964)، ما تبقى من الحكم العسكرى اتسم بصبغة أيديولوجية واضحة، حيث نجد أن فترة حكم الجنرال النميرى (1969–1985) تأرجحت بين أيديولوجيات اليسار واليمين، فى ظل نظام البشير

(1989–2019) تبنى أيديولوجية إسلامية سياسية متشددة أحكمت قبضة الدولة وعمقت الانقسامات الإثنية والانقسامات الإقليمية فى المجتمع. لذلك يمكن تفسير الوضع فى السودان فى معظمه على أنه إرث متجذر فى الواقع السودانى، خاصة وأن السودان له سوابق تاريخية فى هذا الإطار، حيث شهدت السودان واحدة من أوائل وأقدم الحروب الأهلية على مستوى القارة الإفريقية فى الفترة ما بين 1955 وحتى 1972، ثم 1983. وهو ما يعنى استمرار فشل مشروع الدولة الوطنية فى السودان.

الواقع التعددى للدولة السودانية واستمرار أزمة الاندماج الوطني

أى تحليل معمق للحرب الدائرة الان فى السودان ينبغى أن يعود بها إلى الجذور والمحددات الرئيسية الممتدة فى التاريخ والمجتمع السودانى، فالسودان صورة مصغرة للقارة الإفريقية وما تعكسه من تنوع وتعدد إثنى، دينى، وثقافى، فالسودان يوجد بها نحو 597 جماعة وهوية إثنية، ومن ثم فهى تجسيد حى لما يمكن أن تكون عليه إشكالية الاندماج الوطنى وبناء الدولة الوطنية الجامعة فى إفريقيا، وهى الإشكالية التى تتمثل فى عجز الأنظمة السياسية المتعاقبة فى السودان وفشلها فى خلق إطار وأساس جامع للدولة الوطنية، نتيجة عدم قدرة تلك الأنظمة على التعاطى مع الواقع التعددى القائم، وما نتج عن ذلك من عدم عدالة فى توزيع وتقاسم الموارد والثروة، ومن ثم عدم عدالة نماذج التنمية بين الأقاليم المختلفة، فتحول ذلك إلى بؤر مستمرة للصراعات، أدت تلك الصراعات إلى إضعاف السلطة التنفيذية وتراجع فاعليتها فى إدارة التحديات الاقتصادية والاجتماعية ومجابهتها.

فى السياق العام اتبعت الدول الإفريقية ثلاثة نماذج للتعاطى مع إشكالية الاندماج الوطنى، النموذج الأول تمثل في: الاستبعاد أو الفصل كما كان الحال فى نظام الفصل العنصرى فى جنوب إفريقيا، والثانى أسلوب الدمج الإكراهى الذى اتبعته اثيوبيا. النموذج الثالث يتمثل في: أسلوب الاندماج الوظيفى، وهو النمط الذى اتبعته السودان منذ الاستقلال، والذى يأخذ أشكالًا عدة؛ بداية من تقاسم السلطة والثروة بين الجماعات والإثنيات المختلفة، ومرورًا بإعطاء الحكم الذاتى للجماعات والأقاليم المختلفة، أو إقرار الفيدرالية كشكل للدولة.

نمط الاندماج الوظيفى المتبع، وما نتج عنه من مشكلات معقدة تقترن وعديد المشكلات السياسية والأمنية والاجتماعية الأخرى فى المجتمع السودانى، عزز من عمق وتأثير إشكالية الاندماج الوطنى فى السودان. حيث كانت ولاتزال الولاءات والانتماءات القبلية وحتى الشخصية للزعامات تعلو ما دونها من الانتماء الوطنى للسودان ككل.

هذه التعددية انعكست أيضًا على واقع الجيش السودانى والأجهزة الأمنية خاصة فى عهد البشير الذى عمل على خلق العديد من الكيانات والحركات المسلحة خارج إطار المؤسسة العسكرية والأمنية، من دون رسم خط واضح لتبعية تلك الكيانات للمؤسسة وخط تسلسل السلطة العسكرية والمالية سواء بالجيش السودانى أو داخل تلك الكيانات، وهو ما تمخض عنه حالة «ميليشيات الدعم السريع» التى تأسست فى عام 2008 تحت زعم حماية المناطق الغربية فى السودان. لتصبح ذات إطار رسمى عام 2013، وتتبع جهاز الاستخبارات والأمن الوطنى السودانى فى البداية. ثم تبعيتها المباشرة لرئاسة الجمهورية السودانية فى عام 2016، ثم تبعيتها للقوات المسلحة السودانية بموجب القانون الذى أصدره البرلمان السودانى فى عام 2017. حتى أصبحت تلك الميليشيات وقائدها طرفًا فى المعادلة السياسية والأمنية فى السودان ما بعد رحيل نظام البشير فى 2019.

صحيح أن ثورة ديسمبر 2018 أسفرت عن نتائج سياسية كبيرة حيث كانت

بداية النهاية للنظام الإسلامى الذى استمر قرابة 30 عاما. فى الأشهر القليلة التى تلت البشير وعقب مفاوضات صعبة أسفرت عما يسمى إعلان (17 أغسطس 2019) الدستورى وقعه الجيش وقوى الحرية والتغيير. نص الإعلان الدستورى على إقامة شراكة عسكرية مدنية تتألف من:

مجلس السيادة ومجلس الوزراء؛ وعلى هذا الأساس وطنى انتقالى يجب أن يتم إنشاء الجمعية بعد 90 يومًا من التوقيع. كما وعد الإعلان الدستورى بتمرير السودان خلال فترة انتقالية إلى حكومة مدنية.

هذا النظام الديمقراطى الوليد قوبل بالترحاب والدعم فى الداخل

السودانى والمجتمع الدولى. ومع ذلك، كان هناك الكثير من التحفظات بشأن قدرة الأطراف والقوى السودانية المختلفة على تحقيق الأهداف الطموحة للإعلان والجدول الزمنى فى ضوء تجارب التحول الديمقراطى فى السودان تاريخيا وما آلت إليه، فضلا عن الحكمة فى الحفاظ على الجيش السودانى القوى والمكروه على نطاق واسع فى الحكومة المدنية الجديدة.

لذلك؛ خلال العامين الأولين من الفترة الانتقالية، كانت الحكومة المدنية

تواجه العديد من التحديات التى أدت إلى تآكل شعبيتها. وأدى الخلاف بين المدنيين والعسكريين إلى عرقلة خارطة الطريق للإصلاحات التى يعتزم رئيس الوزراء تنفيذها. وبدأ الخلاف ما بين المكون العسكرى والمدنى من جانب، ومن جانب آخر كانت هناك حالة من الفوضى بين مكونات القوى المدنية. حيث ظهر التنافس بين الجماعات المنتمية إلى قوى الحرية والتغيير، وكذلك بين قوى الحرية والتغيير والقوى السياسية المتحالفة مع الجيش والنظام السابق. كما كانت هناك أيضًا قوى أخرى مثلت جزءًا من المرحلة الانتقالية وظهر فى المشهد: لجان المقاومة، الجمعيات المهنية، التجارة، النقابات (نقابات موظفى الجامعات، وغيرها) ومنظمات المجتمع المدنى.

لذلك؛ يمكن القول إن بنية الإعلان الدستورى ساهمت فى تعميق أزمة التحول فى السودان، حيث افتقر الإعلان إلى خطة واضحة المعالم وخارطة طريق التنفيذ، وكان الإعلان طموحًا للغاية ويفتقر إلى تحديد الأولويات. كما أنه كان مغايرا للواقع على افتراض أن العسكريين والمدنيين يمكن أن يتقاسموا السلطة والعمل معا بسلاسة من أجل تحقيق الاستقرار الوطنى للسودان.

إذن؛ تحليل معمق لتاريخ وديموغرافياً السودان، وكما نقول التاريخ هو معمل السياسة؛ نجد أن أصل الأزمة فى السودان يتجاوز المرحلة الحالية بفترة زمنية طويلة؛ تنطوى الأزمة الحالية فى السودان على محددات عدة لها جذور كبيرة فى المجتمع السودانى، ولا تزال تلقى بظلالها على واقع التحول الديمقراطى فى السودان حتى تاريخه، لذلك عندما بدأ القتال بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع فى الخرطوم فى 15 أبريل 2023، كان السودانيون منقسمين بالفعل على عدة أقسام وفق خطوط سياسية، إثنية وعرقية.

محفزات خارجية وتداعيات إقليمية

العامل الخارجى كان أحد أهم محفزات الصراع بين الطرفين بعد سقوط حكومة عبدالله حمدوك فى 2021؛ حيث سعى كل من البرهان وحميدتى لتوطيد علاقاته الإقليمية والدولية، خاصة مع الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والكيان الإسرائيلى ودول الجوار، وهو ما أثار الانتقادات المتبادلة بين الطرفين، وخاصة الجيش السودانى، الذى انتقد بشدة تقارب حميدتى مع إثيوبيا والكيان الإسرائيلى.

وهو الأمر الذى حذرت منه مصر بشكل جلى فى قمة القاهرة لدول جوار السودان، والذى أكد البيان الختامى لها على ضرورة الحفاظ على وحدة الدولة السودانية، والتأكيد على الاحترام الكامل لسيادة ووحدة السودان وسلامة أراضيه وعدم التدخل فى شؤونه الداخلية، والتعامل مع النزاع القائم باعتباره شأنا داخليا، والتشديد على أهمية عدم تدخل أى أطراف خارجية فى الأزمة حتى لا يطيل أمدها.

لكن حرب الخامس عشر من إبريل العام الماضى زادت من وتيرة التنافس الدولى فى السودان، وأصبحت السودان ساحة للصراع الإقليمى بالوكالة؛ وظهرت فواعل خارجية جديدة فى الساحة السودانية. اندلع سباق جيوسياسى لكسب النفوذ داخل البلاد. وتتطلع جهات فاعلة مثل روسيا وإيران إلى ما يقرب من 500 ميل من ساحل البحر الأحمر السودانى، وتأمل علنًا فى إنشاء موطئ قدم بحرى.

وانقسم الدعم الدولى وتوزع بين طرفى الصراع الجيش السودانى وقوات الدعم السريع بقيادة حميدتى، وانحازت قوى إقليمية أخرى أيضًا إلى جانب إريتريا، حيث تخشى إريتريا من تقدم قوات الدعم السريع شرقًا نحو حدودها، وتدعم الجيش السودانى بشكل عام، فى حين أن جارتها إثيوبيا، تبدو صديقة لقوات الدعم السريع.

وتؤدى هذه التشابكات والتدخلات الخارجية إلى زيادة احتمالات تفاقم أعمال العنف بشكل كبير كلما امتدت الحرب وآثارها إلى خارج حدود السودان، وهى العملية التى تجرى الآن على قدم وساق. وفى فبراير الماضى أصبح خط أنابيب تصدير النفط الرئيسى فى جنوب السودان، والذى يمر عبر السودان، فى حالة سيئة بسبب نقص الصيانة بسبب القتال، مما يهدد بحدوث انهيار اقتصادى قد يؤدى إلى تعميق الشقوق الداخلية وزعزعة استقرار البلاد من جديد. ومن الممكن أن يؤدى انتقال العدوى من السودان إلى زعزعة استقرار تشاد، التى ينحدر منها بعض مقاتلى قوات الدعم السريع؛ أو قد تجذب إثيوبيا أو إريتريا، بالإضافة إلى قوى إقليمية أخرى. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يخلق فراغ الحكم فرصًا للجهاديين لإنشاء قواعد لهم فى السودان. وليس أقلها إن العديد من القوى العربية والإفريقية المشاركة فى الحرب تنظر إليها على أنها محورية للتنافس على الوصول إلى البحر الأحمر الممر المائى الاستراتيجى والسيطرة عليه، مما يؤدى إلى تفاقم التوترات.

كما أن الصراع الدائر فى السودان يشكل خطرا أمنيا على منطقة الساحل الأفريقى، التى تعانى بالأساس من انتشار التنظيمات المتطرفة داعش وغيره. والعديد من الدول تفتقد لوجود نظام أمن جماعى فى منطقة القرن الأفريقى،إذ تقوم كل دولة على شكل منفرد بحماية أمنها مع الاعتماد على دول أخرى، لذلك استمرار الصراع فى السودان وامتداد نطاقه، يشكل خطرا يتمثل فى انتشار الأسلحة الصغيرة، التى يمكن أن تصل إلى الدول المجاورة عبر الثغرات الحدودية وقد يمتد ذلك إلى مناطق بعيدة فى مالى وبوركينا فاسو. وانتشار الأسلحة سيؤدى إلى تدهور الوضع الأمنى فى منطقة الساحل، خاصة مع وجود نشاط لجماعات مسلحة، لذلك الأزمة فى السودان قد تفاقم الوضع فى «منطقتين متأزمتين» أصلا هما: منطقة القرن الأفريقى ومنطقة الساحل.

وفى السياق ذاته، فإن الدول الإقليمية، من مصر وتركيا إلى المملكة العربية السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة- وكلها لها تاريخ وروابط فى الشؤون الداخلية للسودان- تتقاسم اهتمامًا شديدًا، وإن كان متنافسًا، بنتيجة الصراع. وسواء كان الأمر يتعلق بحماية استثمار استراتيجى، أو بهدف ضمان الوصول إلى السلع الأساسية، أو الانحياز إلى أحد الجانبين فى صراع السودان الدائم حول دور القوى الإسلامية فى البلاد، فإن هذه التأثيرات الخارجية يتم الشعور بها بشكل مختلف.

لكن الأهم بالنسبة للأطراف المتحاربة هو أن هذا التنافس بين القوى العظمى والمتوسطة يوفر لها فرصًا جديدة لتحقيق أهدافها الضيقة وإطالة أمد الحرب. ومن خلال التلاعب بهذه القوات فيما بينها، نجح المتحاربون فى السودان فى ضمان التدفق المستمر للأسلحة والاستخبارات والدعم السياسى اللازم لإبقائهم فى القتال، ونتيجة لذلك، إبقاء المدنيين تحت التهديد.

سيناريوهات قاتمة

فى ضوء عدم تحقيق كل طرف من طرفى الصراع فى السودان لنصر حاسم على الطرف الأخر، وفى ظل رغبة كل طرف من الأطراف فى استمرار القتال، ومع التحولات الميدانية على مستوى العمليات العسكرية، تبدو الأزمة مرشحة للاستمرار والتصاعد.

على مستوى العمليات العسكرية؛ وبعد حملة استمرت أشهر العام الماضى شهدت قيام قوات الدعم السريع بتوسيع سيطرتها من المناطق الغربية لدارفور إلى احتلال شبه كامل للعاصمة، بدأت قوات الدعم السريع حملة جديدة تهدد المناطق الواقعة جنوب وشرق الخرطوم على طول نهر النيل. وكان الاستيلاء السهل على ود مدنى، العاصمة الثقافية والزراعية، فضلًا عن الأراضى الواقعة على طول نهر النيل، فى ديسمبر الماضى، بمثابة صدمة للقيادة العسكرية السودانية، التى شعرت بالإهانة بسبب الخسارة. وبالمثل، ساد الذعر بين المدنيين الذين يعيشون فى المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش، والذين بدأوا يشكون فى قدرة الجيش، بل وحتى اهتمامه، بحمايتهم. وانضم آلاف المدنيين إلى ميليشيات الدفاع الشعبى التى تم تنظيمها على عجل لصد المزيد من هجمات قوات الدعم السريع.

وتفوقت قوات الدعم السريع بقيادة حميدتى على الجيش فى معظم فترات الحرب، وسيطرت على معظم أنحاء الخرطوم فى الأيام الأولى من الصراع وحافظت على الزخم لبعض الوقت بينما كان خصمها يكافح للرد. وبعد توسيع قبضتها على الخرطوم الكبرى فى الأشهر الأولى من الحرب، بما فى ذلك الاستيلاء على مصفاة النفط الرئيسية فى السودان، وهو أمر مفيد لعملياتها، حولت قوات الدعم السريع انتباهها فى أكتوبر ونوفمبر إلى أماكن أخرى. واحتلت معظم أنحاء دارفور، المنطقة الغربية التى خرجت فيها لأول مرة من فلول الجنجويد، وهى ميليشيا يدعمها البشير مسؤولة عن فظائع ضد الأغلبية غير العربية فى المنطقة فى أوائل العقد الأول من القرن الحادى والعشرين. كما شنت قوات الدعم السريع هجمات جديدة فى منطقة كردفان، وصدمت العديد من السودانيين بشن أول هجوم لها جنوب شرق الخرطوم فى ديسمبر الماضى، حيث استولت على ود مدنى، عاصمة ولاية الجزيرة، التى تعد سلة الخبز. وفر العديد من سكان الخرطوم إلى ود مدنى، معقل الجيش، عندما اندلعت الحرب. وبحلول نهاية عام 2023، كان التساؤل الأبرز عما إذا كانت قوات الدعم السريع ستواصل تقدمها شرقًا لمهاجمة معقل الجيش الجديد فى بورتسودان على البحر الأحمر.

منذ ذلك الوقت، استخدمت القوات المسلحة السودانية أزمة الثقة هذه لحشد الجهود للبدء فى استعادة أراضيها المفقودة – وسمعتها – والاستفادة من الزخم الناجم عن التهديد بتحقيق انتصار صريح لقوات الدعم السريع. وقد ساعدت شحنات الأسلحة، بما فى ذلك طائرات بدون طيار مسلحة من طراز مهاجر 6 من إيران، القوات المسلحة السودانية على التغلب على أوجه القصور التشغيلية لديها فى الوقت المناسب. يبدو أن استعادة الجيش لمدينة أم درمان الشهر الماضى والجهود المتصاعدة لاستعادة ولاية الجزيرة قد أعادت زخم ساحة المعركة، إن لم تكن اليد العليا، إلى الجيش فى الوقت الحالى.

لكن زخم قوات الدعم السريع تراجع، حيث تبدو قوات حميدتى منهكة فوق طاقتها وهى تقاتل على جبهات من الغرب إلى الشرق. وأدت الاشتباكات فى جميع أنحاء البلاد، لا سيما فى كردفان وأم درمان، الضاحية الرئيسية للخرطوم غرب النيل، ورغم إجهاد خطوط إمداد قوات الدعم السريع ومواردها، إلا أن قدراتها القتالية لا تزال كبيرة، مع تدفق مستمر للأسلحة والأفراد. ومع ذلك، يبدو أن قوات الدعم السريع غير قادرة أو غير مهتمة بإدارة المناطق الخاضعة لسيطرتها–وبعضها يضم سكانًا معادين بشدة لها، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أعمال النهب الوحشية وغيرها من الانتهاكات–وتكافح من أجل السيطرة على المجندين الجدد. وأثارت الفظائع التى ارتكبتها القوات، والتى تشمل القتل والعنف الجنسى ضد النساء والفتيات والسرقة المنهجية، غضب العديد من السودانيين، ودفعت عشرات الآلاف إلى حمل السلاح ضد قوات الدعم السريع، إما عن طريق الانضمام إلى معسكرات تدريب الجيش أو التنظيم تحت الميليشيات العرقية التابعة لها. وفى الوقت نفسه، فإن العديد من أولئك الذين انضموا إلى قوات الدعم السريع فعلوا ذلك على أمل الحصول على مكافأة كبيرة. ويتمتع الكثير منهم بالولاء لزعماء العشائر والقبائل أكثر من ولائهم لتسلسل قيادى صارم فى قوات الدعم السريع.

وقد تتحول المعركة قريبًا إلى بحرى، المدينة الشقيقة للخرطوم إلى الشمال، وكذلك إلى بقية العاصمة، حيث كانت كلتا المنطقتين فى أيدى قوات الدعم السريع بشكل رئيسى منذ اندلاع الحرب. ومن المرجح أيضًا أن يسعى الجيش إلى طرد قوات الدعم السريع من مصفاة النفط الواقعة شمال الخرطوم، والتى لا تزال القوات شبه العسكرية تعتمد عليها للحصول على الوقود. أما حملة الجيش الموعودة لاستعادة الجزيرة فقد تحركت بشكل أبطأ، ويرجع ذلك جزئيا إلى العمليات الدفاعية التى يقودها ضابط سابق بالجيش يقود الآن ميليشيا محلية متحالفة مع قوات الدعم السريع. 

ومع تجمع القوتين الآن إلى حد كبير على طول الخط الفاصل بين الشرق والغرب، تصاعدت التهديدات الإنسانية التى تواجه شعب السودان. كل تقدم لقوات الدعم السريع يؤدى إلى انهيار مماثل لما تبقى من خدمات الدولة السودانية؛ تميل مؤسسات الدولة المتبقية إلى العمل فقط فى المناطق التى يسيطر عليها الجيش. وخارج دارفور، تعتبر المناطق التى احتلتها قوات الدعم السريع ملاذات للنهب والانتهاكات. وفى ظل انعدام الأمن الشديد والدمار والنزوح الجماعى (باستثناء تلك المجتمعات التى تخشى الفرار أو المحاصرة)، توقفت الزراعة وسبل العيش الأخرى. والنتيجة هى تدمير الإنتاج الغذائى المحلى فى السودان. كما تقلصت الواردات الغذائية حيث يواجه التجار تكاليف باهظة وتحديات فى إيصال المنتجات إلى الأسواق.

لذلك؛ فى ضوء المحددات الميدانية العسكرية وتفاقم الأوضاع الإنسانية، وارتفاع حدة الاستقطاب على أسس إثنية وعرقية، يبقى الصراع فى السودان مرشحا للتطور إلى الحرب الأهلية الشاملة، ما يجعل السودان أقرب إما إلى سيناريو الدولة الفاشلة فى الصومال، أو سيناريو التقسيم الثانى على شاكلة الدولة الليبية بوجود أكثر من مركز للحكم. وتبدو احتمالات التوصل إلى حل سريع للصراع قاتمة. ولا تزال الأمور أكثر قتامة هى الخسائر الإنسانية الناجمة عن استمرار الصراع، خاصة مع تورط المزيد والمزيد من الجماعات فى الاضطرابات، قد يجد كل من البرهان وحميدتى صعوبة متزايدة فى الحفاظ على السيطرة على الميليشيات التابعة. كما أن التفتت المحتمل للحرب الأهلية فى السودان ينذر بالسوء أيضًا لأنه قد يعرض للخطر الجهود الرامية إلى حل الصراع من خلال المفاوضات المباشرة بين الطرفين. ومن ناحية أخرى، بدأ الصراع يتدهور بسرعة بالفعل ليتحول إلى حروب عرقية، وخاصة بين عرب دارفور وسكان نهر السودان، فضلًا عن العرب وغير العرب فى دارفور. وقد أدى الوصول إلى المزيد من الأسلحة، وتصاعد الانتهاكات، وانتشار خطاب الكراهية، إلى زيادة دعوات القادة العسكريين والمجتمعيين لإبادة المجتمعات المتحالفة مع الأطراف المتحاربة.

وحتى إذا نجح الجيش السودانى فى استعادة السيطرة على العاصمة السودانية الخرطوم، إلى جانب العديد من المدن الأخرى ذات الأهمية الاستراتيجية والسياسية، مثل مدينة ود مدنى ومركز النقل فى مدينة الخرطوم، ومع ذلك، قد تكتفى الحكومة السودانية بقيادة البرهان بإعادة تأكيد سلطتها على بقية السودان وترك المناطق المحيطية فى دارفور للحكم القبلى لميليشيا قوات الدعم السريع. مثل هذا السيناريو موجود بالفعل فى الشمال فى ليبيا، لكنه ليس مثاليًا بأى حال من الأحوال. ومع عائدات الذهب من دارفور والتحالفات عبر الحدود فى تشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى وليبيا المجاورة، فإن قوات الدعم السريع الضعيفة التى تسيطر على دارفور ستحتفظ بالثروة وشبكات الإمداد لتظل تشكل تهديدًا لشعب السودان والمنطقة على المدى الطويل ولسنوات قادمة

الحرب السودانية دليل دامغ على أهمية وجود جيش وطنى موحد

أحد أبرز الدلالات للحرب والصراع فى السودان يتمثل فى مدى أهمية وجود جيش وطنى موحد يحتكر القوة الشرعية للحفاظ على مقدرات الدولة وامنها، وعدم وجود كيانات موازية تنافس القوة الوطنية على القوة والنفوذ بما يهدد استقرار الأوطان. وهو ما تؤكد عليه المبادئ الراسخة للسياسة الخارجية للدولة المصرية منذ 2014 فيما يتعلق بدعم وحدة الجيوش الوطنية، وليس الميليشيات على شاكلة الدعم السريع.

لذلك فأى سيناريو للحل فى السودان يحتاج لأساس قائم على إصلاح هيكلى وجذرى للقوات المسلحة السودانية والأجهزة الأمنية، عبر ديناميات تخلق قوات أمنية ذات ولاءات وطنية لحماية الدولة السودانية، بدلًا من الولاء للأيديولوجية السياسية والعرقية والقبلية. كذلك تحتاج كافة مؤسسات الدولة السودانية إلى إصلاحات هيكلية، لذلك يشكل إصلاح قوات الأمن عنصرًا جوهريا فى هذا الإصلاح.

على المستوى السياسي؛ يجب دمج جميع المبادرات الدبلوماسية خلف مخرجات قمة دول جوار السودان بالقاهرة، حيث دعا الرئيس السيسى طرفى الأزمة لوقف نزيف دماء أبناء الشعب الواحد، وإطلاق حوار وطنى جامع يهدف إلى الوصول لحل سياسى شامل.

فى هذا السياق؛ تلعب الدبلوماسية العربية بقيادة مصرية دورًا حيويًا فى إنهاء الأعمال العدائية، نظرًا لتأثير هذه الدول على الأطراف المتحاربة فى السودان، حيث تتمتع بنفوذ كبير على الأطراف المتحاربة–بأفضل الفرص لإقناع الجانبين بوقف القتال، والسماح للمساعدات الإنسانية بالوصول إلى من يحتاجون إليها وبدء العمل الشاق لتحقيق السلام. حيث تتأرجح البلاد على حافة الفوضى والمجاعة الجماعية وحرب يمكن أن تمتد عبر حدودها إلى منطقة مضطربة. وأى سيناريو بديل يعنى استمرار الحرب ويزيد من احتمالات تفكك السودان. تكلفة هذا السيناريو مرتفعة وسوف وتمتد إلى الدول المجاورة والمنطقة بشكل عام. الأمر الذى قد يقود السودان إلى «أن يصبح مرة أخرى بيئة خصبة مثالية للشبكات الإرهابية والإجرامية».

ومع انتشار التيارات الجهادية بوتيرة متسارعة عبر منطقة الساحل والصحراء، مما أدى إلى تدفق المقاتلين الأجانب للانضمام إلى قوات الدعم السريع بحثا عن رواتب ثابتة–وهو الوضع الذى يتفاقم بسبب الانهيار الفعلى لسلطة الدولة لتتبع حركة الأسلحة والمقاتلين–فإن هناك مخاوف ومهددات كبيرة من أن يقع السودان مرة أخرى فريسة لتيارات الإسلام المتطرف المسلحة فى البلاد التى قدمت ذات يوم ملجأ لزعيم القاعدة أسامة بن لادن.

لكن يجب أن يكون واضحا للجميع داخل السودان وخارجه أن الطريق نحو الحل الشامل للصراع فى السودان لايزال طويلا ومعقدا ويواجه تحديات عدة، وأن قضايا مثل الحكم المدنى والانتخابات الديمقراطية اليوم هى بمثابة إلهاء وخيال أكثر من كونها طموحًا جديًا. لذلك ومع مرور عام على الصراع المتأجج فى السودان، تصبح الحاجة ملحة لأن تكون أهداف وغايات الحل أكثر واقعية إلى حد كبير تتمثل في: إبطاء وتيرة الحرب، وخنق إمدادات الأسلحة، وزيادة المساعدات الإنسانية، وإنقاذ المدنيين من السكان، وذلك تجنبا لأسوأ السيناريوهات فى السودان.