رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

«الرهبنة».. هدية مصر للعالم المسيحى

بوابة الوفد الإلكترونية

القديس الأنبا أنطونيوس.. أب الرهبان ومؤسس الحياة الديرية

صاحب الأثر الباقى فى الكنيسة القبطية

دير «أب الرهبان» بالبحر الأحمر.. أقدم معالم السياحة الدينية فى العالم

محطات مهمة فى حياة مؤسس الفكر الرهبانى

 

لصحراء مصر خصوصية روحية فى وجدان العالم المسيحى، فعندما ضاقت الأفق أمام العذراء أخذت طفلها الرضيع وفرّت بصحبة خطيبها القديس يوسف النجار إليها لتحتمى فى أحضانها الآمنة، فمنذ فجر التاريخ وهبت مصر ترابها لاستقبال الشعوب ونيلها لارتواء جوف المتعطشين للسلام، كما بعثت نورًا روحنيًا للعلم، تجسد فى قديسين مصريين لا تزال الكنيسة القبطية تعيد تذكير أجيالها المتعاقبة بما قدموه من أجل البشرية.

النهضة الروحية لأب الرهبان

وخلال هذه الأيام، تعيش الكنيسة القبطية فترة إيمانية تعرف بـ«النهضة الروحية» للقديس الأنبا أنطونيوس والتى تستمر حتى 30 يناير الجارى فى عدد كبير من الإيبارشيات لإحياء ذكرى هذه الشخصية الجليلة المؤثرة التى كتبت حروف الرهبنة الأولى مرت بمراحل متنوعة وارتبطت بنفس وعقيدة مسيحية فى مذاهب وطوائف مسيحية حول العالم وليس فى مصر فقط.

وتتضمن فترة النهضة الروحية إقامة القداسات الإلهية والعظات واللقاءات الروحية المسائية بمشاركة الآباء الأساقفة والكهنة وأحبار الكنيسة، وتحرص على تمجيد وإحياء تذكار هذا القديس الذى منح الكثير للعالم وأفاض علمه وخدمته فى الحياة الرهبانية والتراث المصرى.

وتُعد مصر صاحبة الريادة فى عدة تعاليم لا تزال الكنائس بمختلف طوائفها تتبعها وكان منبعها أرض الكنانة، ومن أبرزها «الرهبنة» التى ارتبطت فى أذهان العالم المسيحى بصحراء وادى النطرون والتى عرفت قديمًا بـ«برية شيهيت» ولقبها البعض بـ«أم الرهبنة» نسبةً لما قدمته من فكر رهبانى لم يكن يخطر بالأذهان قبل ظهور القديس الأنبا أنطونيوس الكبير المُلقب بـ«أب الرهبان»، الذى يعتبره المؤرخون صاحب الفضل فى نشر هذا الفكر وأول راهب ورد بشكل تفصيلى فى التاريخ رغم وجود أعلام سبقته فى هذا المعنى الروحى من تعبد وزهد العالم من أجل الصلاة ومناجاة الله فى الخلاء.

تاريخ مسيحى عريق على أرض مصر

كما يذكر التاريخ المسيحى العديد من الأسماء الذين نذروا أرواحهم إلى الله وتركوا ثرواتهم وأسرهم من أجل التفرغ للعبادات وسط صحراء قاسية، ولكن لمع اسم القديس أنطونيوس لما تخللته سيرته من تفاصيل ودور مؤثر فى هذا السياق، فهو أحد الشخصيات المؤثرة التى عاشت بالقرن الثالث الميلادى ووضع أصول الرهبنة التى لا تزال تسير على دربها الشعوب المسيحية رغم تعددها وتنوع ثقافاتها ومرور تغيرات على المجتمعات، ولكن الجوهر لا يزال يُنسب إلى أب الرهبان.

وعلى مر التاريخ أهدت مصر الكثير من تعاليم والثقافات فى المجالات عديدة للعالم، وفتحت أبوابها لشعوب الأرض واحتضن ترابها كل من لجأ إليها وكانت واجهة الأمان للعائلة المقدسة التى فرّت هاربة من بطش هيرودس الملك وظلمه، إلى أرض الكنانة، ولا عجب من ذكر اسمها فى مواضع كثيرة، فهى مرجع لعدد كبير من التعاليم المسيحية.

دير الأنبا أنطونيوس الكبير

ومن داخل مغارة صغيرة تعرف بـ«القلاية» بجبل القلالى قرب البحر الأحمر، عاش القديس أنطونيوس، وترك تعاليم توارثتها الأجيال فى البرية الشرقية، وبدأت حركة الرهبنة تسير من صحراء وادى النطرون فى القرون التالية وأصبح اسمه متعلق بهذا الفكر ويتردد على ألسنة الكثير حول العالم كلّ بثقافته فهناك من ينطقه «سان أنطونى، أو مار أنطونيو» ويعرف بـ«أب الرهبان أو أب الأسر الرهبانية»، ويؤول إليه الفضل فى تأسيس الرهبنة ووجود أديرة حول العالم.

يقع دير الأنبا أنطونيوس على سفح جبل الجلالة القبلى بصحراء البحر الأحمر يتوسط الطريق المؤدى إليه ممر من الجبال، ويضم عدد من الأيقونات والكنائس والسور الأثرى وعدد من القلالى التى يعيش بها الرهبان، عين الماء التى تعود تاريخًا إلى عام 1700، كما يحتضن كغيره من الأديرة «الحصن الأثرى» الذى شيد فى عهد الإمبراطور جوستنيان عام 537م، ويبلغ ارتفاعه 15 مترًا وكان قديمًا بناء الحصن داخل الدير بمثابة درع الحماية للرهبان من الهجمات وعادة يكون مكوناً من 3 طوابق ومرتفعاً يصل إليه الصاعد من خلال قنطرة خشبية.

 وبحسب ما ذكرت الكتب المسيحية تبلغ مساحة الدير 18 فدانًا ثم ألحقت به ما يقرب من 350 أخرى ليصبح واحدًا من أقدم الأديرة بالعالم وأعرقها على الإطلاق، ولعل لهذا الدير خصوصية روحية ما منحه أسبابا جعلته يستقطب الزائرين ليتكبدوا مشقة الصعود بين مرتفعات جبلية وطرق ممهدة الملايين طوال العالم لمشاهدة ما يحوى من كنائس أيقونات وذخائر قبطية شهدت على مرور أباطرة القديسين فى التاريخ القبطى الأرثوذكسى.

محتويات دير أب الرهبنة

ويوجد بالدير العريق كنيسة الأنبا أنطونيوس، وحرص كل من مروا بهذا الدير كتابة أسمائهم على الجدار المؤدى للكنيسة، وتضم وتتبارك بأجساد القديسين، عبر سلالم بنيت فى مدق الجبل الشاهق تبلغ عدد 1420 سلمة وتصل لقرابة 45 دقيقة حتى يتمكن الصاعد الوصول حيث توجد مغارته المرتفعة عن الأرض بعض الشىء، يتوافد الكثير من محبى القديس فى مثل هذه الفترة سنويًا، ومع لحظات الدخول لهذا المكان الذى أصبح كنيسة لا يتعدى طولها 6 أمتار تتهافت فى نفس الزائر مشاعر روحانية تثير القلب وتندمج مع رائحة البخور وصوت الآباء الرهبان وهم يؤدون طقوس الصلوات.

وشهد الدير على مر العصور تجليس وترسيم كوكبة من بابوات الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، ولعل لهذا السبب من أضفى إلى ما يمتلكه من تراث عريق ومنهم قداسة البابا غبريال السادس البطريرك الـ91، البابا يوأنس الخامس عشر البطريرك الـ99، البابا مرقس السادس عشر البطريرك الـ101، والبابا يوأنس السادس عشر البطريرك رقم 103، والبابا يوأنس السابع عشر البطريرك الـ107، والبابا بطرس الجأولى البطريرك الـ109، والبابا كيرلس الرابع المعروف كنسيًا بـ«أبى صلاح» البطريرك الـ110، والبابا يوساب الثانى البطريرك الـ115، ويرعى الدير الآن نيافة الأنبا بسطس أسقف عام.

مسيرة عامرة

عاش القديس أنطونيوس فى القرن الرابع الميلادى ووُلد عام 251م بقرية قمن العروس مركز الواسطى شمال محافظة بنى سويف، وكان من أسرة ثرية وترك متاع العالم من أجل الحياة الإيمانية، اشتعل فؤاده بحب الرهبنة ثم توجه إلى الكنيسة ذات ليلة عام 269م وسمع الإنجيل يتردد التهب قلبه وأرشده لترك الدنيا والتفرغ للعبادة والزهد.

سكن الشاب أنطونيوس بجوار النيل حسبما ورد فى كتاب حفظ التراث المسيحى «السنكسار»، وظل يتعبد ويصلى ويمارس النُسك بشدة، ويروى التاريخ المسيحى أنه ذهب إلى البرية عام 285 ميلادية، واستقر حيث مغارة تعلو جبل القلزم شمال غربى البحر الأحمر.

وخلال عام 305م، كسر أب الرهبان خلوته ليرسخ معانى الرهبنة فى نفوس تلاميذه، وأصبح مؤسس نظام الرهبنة «الوحدة»، ويصف الكثير سيرته أنها كانت شعبية من نبع نفسه لا يتطلب منها التدخل بالنظام الكنسى.

مكانة القديس بالكنيسة المصرية

وتعتبر الكنيسة القديس بمثابة كنز روحى وفى كثير من اللقاءات والمحافل الدولية يحرص قداسة البابا تواضروس الثانى بابا الإسكندرية بطريرك الكرازة المرقسية، أن يتفاخر بصنع مصر فى الرهبنة وخروجها من أرضها بفضل القديس «أب الرهبان»، الذى يؤكد أهمية ودور هذا البلد فى ثراء التراث القبطى والتعاليم المسيحية.

تناولت الكتب التراثية دور مصر فى منح المسيحيين حول العالم ثلاث منارات عظيمة يتبعها الكثير حول العالم، فهى أول من أسست إكليريكية «أكاديمية» دينية أسسها القديس مارمرقس لتعليم علم اللاهوت وأساسيات الإيمان المسيحى فقد كانت صرخة إيمانية لمواجهة التشدد الدينى حينها، وأيضًا قدمت أرواح مصرية بريئة لحماية الكنائس، فيروى التاريخ الذى يعرف بـ«أدب الشهداء الاستشهادى» أحد فروع الأدب القبطى أن الكنيسة القبطية هى أكبر الكنائس التى قدمت شهداء فى مواجهة أباطرة الرومان عبر العصور، جاءت هذه إلى جانب الفكر الرهبانى والحياة الديرية وإنشاء الأديرة وتأسيس أول مجمع لكل متعبد زاهد فى الحياة يرجو الإيمان.

تكريس أول كنيسة للقديس

خصصت الكنيسة المصرية يوم 10 أغسطس سنويًا، للاحتفال بذكرى تكرس أول كنيسة تحمل شفاعة هذا القديس التى تعتبره مؤسس الفكر الرهبانى وداعى البشر إلى الزهد والبحث عن الله فى خلوة النفس وممارسة العبادات، وتتخذ كلمة «تكريس» حسب المفاهيم المسيحية عدة أبعاد وتعنى لغويًا التخصيص أو أن يهب الإنسان نفسه لقضية أو خدمة معينة، وتطلق عادة على المبانى أو الأشخاص فيُكرس الإنسان حسب الخدمة الكنسية ومن هذه الخدمات «مساعد الفقراء، رعاية المرضى وغيرها من تقديم المساعدات».

ويوجد لهذه الكلمة تعريف كنسى آخر وهو «خدمة كنسية»، ويأخذ التكريس الدينى عادة طقس الرسامة وتعنى تخويل الكنيسة بشكل رسمى شخصًا ليؤدى خدمته، وجاءَ فى سفر أعمالِ الرسل فى مزمور (أع 3 – 2:13) «قالَ لهم الروحُ القدس: أَفـرِدوا شـاولَ وبرنابا لأمرٍ ندَبْتُهما إليه؛ فوضعوا عليهما أيديَهم بعدما صاموا وصَّلوا، ثم صرفوهما».

وتخصصت أول كنيسة لطلب شفاعة «أب الرهبان» التى تحمل تعاليمه وكل مساهماته فى تكوين أجيال مخلصة الإيمان وصادقة المحبة

سيرة الأنبا أنطونيوس فى الكتب

تعددت مظاهر المحبة والتعلق بتعاليم القديس أنطونيوس على مر العصور فهناك من درس تعاليمه وهناك من تلقى مبادئ ودروس الرهبنة الصحيحة حتى يسير على نهجه، وآخرون قاموا بدراسة سيرته وكتابة مؤلفات حول محطات أب الرهبان حتى تُخلد قصته إلى أبد الأبدين.

ومن أشهر الأعمال الأدبية التى تنعم بها الكنيسة المصرية وتعد بمثابة ثروة ثقافية تحتفظ بثروة روحية، هو كتاب «المثال الصالح.. سيرة القديس أنطونيوس» من تأليف البابا أثناسيوس الرسولى، بابا الإسكندرية بطريرك الكرازة المرقسية رقم 20، وتعريب جبرائيل بك روفائيل الطوخى، تناول فيه عدة جوانب منها الأسباب التى جعلت الكنيسة تعتبر مؤسس نظام رهبنة «الوحدة»، وأوجه التباين عن أى نظام رهبانى آخر كـ«الشركة»، والفرق أن الوحدة هو نظام يعتمد على الإنسان منفردًا بعيدا عن ملاذ الحياة ومتفرغا للصلاة مع الله فقط، بينما نظام الشركة الذى أسسه الأنبا باخوميوس فى الصعيد يتجمع فيه مجموعة من الرهبان يتشاركون فى العبادة والطقوس.

 

مواقف وشخصيات فى حياته

ومن أبرز ما يميز سيرة الأنبا أنطونيوس، أنه ذو هدف ذاتى وغير كهنوتى وكان يطمح للتقرب إلى الله، لا يسعى لأى منصب كنسى رغم شهرته ووصول صيته إلى حاكم عصره «الإمبراطور قسطنطين» الذى كان يسعى للوصول إليه كثيرا إلا أن القديس أنطونيوس كان يفضل المكوث للعبادة دون ظهور علنى، لكنه كان يفتح بابه للراغبين فى التعلم، وكانت حياته تتنقل من الصلاة والعبادة والتعليم، ونتج عن هذه البيئة الكثير من القديسين الذى جابوا فى الأرض يزرعون بذور الرهبنة خلفًا لأب الرهبان ومن أشهرهم القديس مكاريوس الكبير الذى خرج بفكر مستنير أيضًا واشتهر ببرية الأسقط، وأصبحت الرهبنة ذات ثلاثة أنماط: الوحدة، والشركة، وأيضًا الجماعات».