رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

«الوفد» تكشف أسرار «الحصن الأثرى» بالقدس الثانية

بوابة الوفد الإلكترونية

 

 

وطئت أقدام العائلة المقدسة إلى أرض مصر هروبًا من بطش هيرودس الملكالذي أمر بقتل الأطفال في بيت لحم، وأرشدتهم العناية الإلهية نحو أرض الكنانة لتبدأ أعظيم رحلة عرفها التاريخ الإنساني.

تنقفلت العائلة المقدسة في مسار مكون من 25 محطة بمختلف المحافظات، حتى وصلت إلى مستقرها الأخير في جبل "قسقام" بأسيوط والتي أصبحت "دير المحرق" العامر بالرهبان، وتباركت مصر بويارة المسيح والعذراء مريم، فأثمرت الأرض ونبعت الآبار وتفتحت ربوع الصحراء التي آمنت روعهم.

وهب الله مصر التفرد وكرمها فى كل الأديان السماوية فكانت هى الملجأ والقِبلة وأرض المعجزات، فتأويل رؤية نبى الله يوسف تحققت على أرضها، وتكلم الله عز وجل مع نبيه موسى على جبلها، وارتمت فى أحضان صحرائها العائلة المقدسة التى لم تجد سواها سبيلاً للأمان، جميلة هى مصر نعمة الله على الأرض، لا يستطيع أحد أن ينكر آثارها فى التاريخ الإنسانى.

 

ومنحت مصر العالم حضارة عظيمة وأهدت إليهم تعاليم لا تزال الشعوب تتذكرها، فهى مهد القديس الأنبا أنطونيوس المعروف بـ«أب الرهبان» الذى أخرج للعالم الفكر الرهبانى حين توجه إلى صحراء وادى النطرون لممارسة العبادات والصلوات تاركاً خلفه متاع الدنيا وملذاتها، ومنذ هذه اللحظة توافد إليه المسيحيون الذين فاض فؤادهم بحب الرهبنة من كل مكان فى العالم فبفضله انتشر الرهبان فى الكون، لذا تعتبر مصر هى المنبع الذى يجرى منه أنهار الرهبنة حول العالم حتى يومنا هذا.

لم يترك الآباء الرهبان شيئاً دون دراسته فظلوا يُبدعون حتى حفروا أسماءهم من ذهب فأراد التاريخ أن يوفى بعهده وحفظهم على مر القرون، ومن بين العديد من الأديرة التى لا تزال تزداد فقد أعلن المجمع المقدس الأسبوع الماضى الاعتراف بـ 6 أديرة جديدة مقسمة بين مصر والخارج، ولكن يتربع دير المحرق على قائمة هذه الأديرة باعتباره «القدس الثانية» وهو آخر محطات العائلة المقدسة على أرض مصر ويضم أقدم كنيسة فى التاريخ الإنسانى، و الأرض التى عاش عليها السيد المسيح 6 أشهر و4 أيام، ودشن بيده مذبحاً فيها.

زارت «الوفد» واحداً من أبرز الآثار القبطية الموجودة بهذا الدير العريق، وهو «الحصن الأثرى» الذى يحمل بين جدرانه تاريخاً عظيماً ويروى الأب الراهب لعازر المحرقى، كيف فكر وصمم الآباء الرهبان هذا المبنى الذى عكس قدرتهم وإبداعهم فى أحلك الظروف عبر التاريخ.

يقول الراهب المحرقى إن فكرة الحصون ظهرت لأول مرة فى وادى النطرون بالقرن الرابع عندما بدأت هجمات البربر الذين اعتقدوا أن الأديرة أماكن عامرة وغنية فكانوا يشنون هجمات لسرقة المحتويات ويقتلون الآباء الرهبان.

فبدأوا يأخذون شكل القلاع الحربية التى كانت منتشرة فى منطقة الشرق الأوسط وخاصة بمنطقة الشام وصنعوا مثيلا لها بغرض الدفاع عن أنفسهم وليس للهجوم وهو ما كان يعتقده بعض الناس قديماً بل كانت وسيلة دفاع وحماية يستعدون فيها للهجوم ويختبئون داخل هذه المبانى.

الراهب لعازر يروى لـ«الوفد» تفاصيل تاريخية عن الحصن الأثرى

وبسؤال الأب الراهب عن كيفية سير الحياة داخل هذا الحصن، قال: كان الرهبان يسرعون نحو الحصن حين تعلو أصوات الغارات، ويصلون إليه من خلال مبنى ثانوى يحوى مصاعد حجرية ثم يعبرون على «القنطرة الخشبية» وبعد التأكد أن الجميع قد صعد وعبر من على القنطرة التى تربط بين المصاعد والحصن كانوا يزيحون القنطرة باستخدام الرافعة المربوطة بحبال عتيدة ثم تُزيح نحو الداخل وتغلق أبواب الحصن على الرهبان ولا يتمكن البربر من الوصول إليهم.

يأخذنا الأب الراهب نحو المدخل الوحيد للحصن وهو عبارة عن حُجرة ذات قبة ومنافذ صغيرة فى الأعلى داخلها 3 غرف وجزء داخلى يحوى على مصعد إلى الأعلى وآخر إلى الأسفل ويقول الراهب إن الغرفة السفلية تخصصت لحفظ الطعام وليس بها منافذ أو أبواب حتى لا يستطيع أحد أن يهاجم الحصن، لذا صُنع الحصن بنوافذ فى الأعلى فقط.

ويضيف فى حواره أنه تم تصميم الحصن ضيقاً من الأسفل حتى لا يتمكن أحد أن يهاجمه وواسع من الأعلى معتمداً على القبب والمنافذ الشاهقة للتهوية الطبيعية وأيضاً تعطى رؤية فيستطيع من بالداخل أن يرى ما يحدث بالخارج وهى إمكانية غير متاحه لمن خارج الحصن.

قدرات حفظها التاريخ للرهبان الأقباط

صُنع الحصن بإبداع هندسى يعجز على العقل البشرى أن يفكر كيف لهؤلاء الآباء والإمكانيات البسيطة أن تصنع هذا المبنى، وكيف تمكنوا من بناء كل هذا الصرح بأيديهم.

 ويقول نيافة الأنبا بيجول أسقف ورئيس دير المحرق بجبل قسقام فى أسيوط، أثناء حواره لـ«الوفد» إن الحصن يمتاز عن غيره أنه من بنى بيد الآباء الرهبان وشيد بالجهود الذاتية تقريبا فى نهاية القرن السادس وبداية القرن السابع، ولم يتعرض لأى هجوم على مر تاريخه منذ تأسيسه بسبب مباركة هذا المكان لذلك لم تنقطع فيه الرهبنة حتى الآن.

ويروى نيافته فى حواره أنه بسبب توافد أعداد كبيرة من الرهبان ظن البربر أنهم يملكون الذهب والمال بالدير فكثرت الهجمات فاضطر رهبان المحرق إقامة حصن قوى لحمايتهم منها، وهى الفكرة التى أسسها لأول مرة «الملك زينون» بعدما التحقت ابنته «القديسة إيلارية» بأحد الأديرة وأراد والدها أن يحميها فأمر ببناء مبنى يكون كمدينة شاملة يدخلها الرهبان يعبرون إليه بالقنطرة ثم يزيحون القنطرة حتى لا يتمكن البربر من العبور واقتحامه، ويضم المبنى طوابق بعضها لحفظ الأطعمة وأخرى للنوم وبعضها مخصصة لإنشاء كنيسة وأيضاً طوابق للطوارئ حتى إذا تنيح أحد الآباء يدفنون جثمانه دون الإضرار بالآخرين.

خطط الرهبان الأقباط فى حماية الدير من البربر

يأخذنا الراهب لعازر فى جولة داخل الحصن ويخبرنا أن الرهبان كان لديهم دائماً خطة بديلة بمعنى أنهم خصصوا مصعداً داخلياً لا يراه البربر فى حال استطاعوا مهاجمة الحصن وهو مؤدى إلى غرفة بالأسفل لا يمكن لأحد أن يفكر بوجودهم داخلها.

الحصن الأثرى.. بصمات فارقة للرهبان فى تاريخ «المحرق»

يصحبنا الأب الراهب إلى أسفل الحصن، تلامسك نفحات الهواء البارد جداً والرطب، ويكشف لنا أن السبب فى هذا الشعور هو تصميم هذا الحصن بحيث تكون هذه الغرفة مؤهلة لحفظ الأطعمة، ويكشف الراهب حكمة الآباء الذين خصصوا هذا المكان لتخزين القمح واستخدامه فى صناعة الخبز والقربان، والترمس لأنه من البقوليات المفيدة ويمنح الإنسان البروتين بالإضافة أنه صالح للتخزين دون تلف بسبب احتوائه على مادة مالحة، وكانت هذه الغرفة أيضاً تحوى بئر ماء كان فرعاً من فروع البئر الرئيسى الموجود بالكنيسة الأثرية الذى تم إغلاقه بالقرن الثانى عشر.

ونصعد على مصاعد من الحجر كبيرة الحجم ينبعث من جدرانها شعاع بسيط من الإضاءة الخارجية ثم نعبر من خلال الدور الرئيسى مرة أخرى وهو المكان المخصص لسكن الرهبان، حتى نصل إلى الدور الثالث الذى شيد فيه «كنيسة الحصن» لإقامة الصلوات خلال فترة اختبائهم.

قصة المنجلية بكنيسة الحصن الأثرى فى دير المحرق

يضم الحصن كنيسة الملاك ميخائيل وهو الاسم الذى تتحد عليه جميع كنائس الحصون عادةً فى الأديرة القبطية، لأنه الشفيع من أجل حماية البشر وأثناء حدوث الهجمات أو الضيقة يلجأ إليه الأقباط ليطلب من أجلهم أن يحميهم ويخلصهم من الضيقة أو الأزمة.

ويصف لنا الراهب كنيسة الحصن الصغيرة ويقول إنها تحتضن القداس اليومى بحضور عدد قليل من الرهبان، وهو ما يحدث بالكنيسة الأثرية زاتباع التقليد بالدير يستخدم خلال قداس الكنيسة الأثرية اللغة القبطية فقط دون غيرها من اللغات التى عادةً ما تستخدم بالقداسات فى جميع الكنائس.

تُنظم الكنيسة الأثرية قداساً يومياً تبدأ بـ  "التسبحة" فى تمام الساعة الثانية والنصف صباحاً حتى الرابعة فجراً، يعقبها القداس حتى السادسة صباحاً.

يروى الراهب خصوصية «المنجلية» فى كنيسة الحصن وما يميزها عن غيرها، فعادةً ما تضم الكنيسة اثنين من المنجلية ليقرأ الشماس أو الأب الكاهن الصلوات باللغتين القبطية ولغة أخرى سواء كانت عربية أو يونانية أو سريانية حسب اتباع كل كنيسة، أما ما تتفرد به منجلية كنيسة الحصن أن عمرها يتجاوز الـ900 عام تعتبر من أقدم القطع الخشبية الأثرية المستخدمة فى الكنيسة القبطية كلها وهناك أيضًا منجلية أخرى ترجع للقرن الـ14 تقريباً بالمتحف القبطى.

قصة هذه المنجلية أن الكنيسة فى الماضى كانت تقرأ قراءات الكتاب المقدس فى الليتورجية باللغة القبطية ومع مرور الوقت وبداية القرن الـ11 بدأت اللغة العربية تنتشر، فشعرت الكنيسة أن هناك أعداداً من المصلين لا يفهمون اللغة القبطية فتقرر حينها استخدام اللغتين بالكنائس بوجود منجليتن إحداهما تنظر إلى الهيكل ويقرأ عليها الكتاب المقدس باللغة القبطية، وحين ينتهى الشماس الأول من هذه المهمة يبدأ شماس آخر ينظر فى اتجاه الغرب نحو المصلين يُعيد القراءات باللغة العربية، نظراً لمساحة كنيسة الحصن الصغيرة صنع الرهبان «منجلية واحدة» ولكنها مميزة يمكن أن تستدير إلى الهيكل واتجاه الغرب معا، وكان اختراع مميز تناسب حاجة المُصلين والرهبان فى حال شنت عليهم هجمات واضطروا المكوث فى الحصن.

كيف فكر الرهبان فى حماية جثامين الآباء بعد رحيلهم؟

يقول الأب لعازر إن الآباء كانوا مُعدين أنفسهم جيداً فقد توصلوا إلى حلول لكل المشكلات التى قد يتعرضون إليها فى حال اضطرتهم الظروف أن يعيشوا فى الحصن، فقاموا بتأسيس دور أخير بالمبنى لدفن وحفظ أجساد من يرحل أثناء مكوثهم، وأسسوا مدينة صغيرة داخل الحصن الأثرى، الذى رغم كافة الاستعدادات والدقة بالصنع لم يُختبر ولم يتعرض لأى هجوم كغيره من الحصون بالأديرة الأخرى، بل أصبح مكاناً متفرداً ومتميزاً فى كثير من النواحى التى جعلته مقصدا للسائحين ويتوافد إليه الكثير ليروا كيف كانت عقلية الرهبان الأقباط وكيف استطاعوا أن يحموا أديرتهم من الأخطار.