رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

 

 

مشكلة مصر اليوم فى شعبوية الثقافة التى ينتمى لها غلاة الليبراليين وغلاة المتشددين دينيا، وما بينهما من نسيج ثقافى متهافت الخيوط. الحقبة الليبرالية قبل 1952 ثم الحقبة الناصرية (1956 – 1970) كانت الأكثر اقترابا وتماسا مع مفهوم مدنية الدولة، ثم اختلطت الأوراق بعد ذلك من 1970 إلى اليوم. عشر سنوات من حكم الرئيس السادات كان اقتراب الدولة على المستوى الرسمى من التيارات الدينية سببا رئيسيا فى ضعف مدنية الدولة لحساب «التديين» الزائف للمجتمع. الحقبة المباركية حافظت فيها الدولة المصرية على توازنات فى تعاملها مع الجماعات الدينية خاصة «الإخوان المسلمين، ولم تقدر أنها كانت تتوهم استئناس الثعالب قرب حظائر الطيور. من 2011 إلى اليوم ظهر بوضوح نوعان من الهوس: الأول هوس ليبرالى يرفض تقريبا كل صور المقاربات الدينية، وهوس دينى شعبوى تزداد حدته كلما ضاقت الأحوال الاقتصادية وارتدت الثقافة إلى أزمنة بارت تجارتها وأتلفها الهوى. عندما تنفض الدولة يدها عن الثقافة والتثقيف تتقارب مباشرة أسراب المثقفين المدجنين بأسراب المتاجرين بالدين، وتظل الانتهازية بمثابة القاسم المشترك بينهما.. على مستوى تزييف الوعى الدينى فتحت نوافذ جديده للفتوى والدعاة الجدد، وشيئا فشيئا انتقلت الفتوى من دار الافتاء إلى المنابر الإعلامية، وامتهن الدعوة كثير من تجار الدين -الشيوخ والشباب-، أما الباحثون والمجددون الحقيقيون فمصيرهم المعتاد ما بين القمع الفكرى والتكفير وقسوة الأحكام القضائية.

الدين فى مصر مكون ثقافى بامتياز، والشعبوية الدينية سرطان ثقافى داخل جسد هذا المكون، وأتصورها أخطر على الدولة من التيارات الدينية المنظمة، لأن «التديين» الوهمى للمجتمع يخلق كتلا بشرية تسمع، ولا ترى ولا تقرأ، وفى اندفاعاتها خطر كبير لأنها تصبح كالمقذوف الأعمى الذى لا يميز الأهداف ولا يحسب النتائج.. هناك مشكلة قديمة وجديدة بذات الوقت أتمنى أن تنتبه لها الدولة المصرية، وهى مشكلة علاقة الدولة بالدين، وبالأحرى بالمؤسسات الدينية. يقول الدكتور العلامة جمال حمدان «ظل الدين فى العصر الحديث أداة ميسورة للسياسة، تستغله القوة لتشريع وجودها، وتبرير مظالمها». وعلى ما يبدو جليا فإن تغلغل التدين المزيف بين الأوساط الاجتماعية -فيما اسميه أنا الشعبوية الدينية- قد غيب وعيها بقضاياها الوجودية الحقيقية، وأضعف ضميرها الجمعى العام، وأدى إلى تدعيم وتقوية وترسيخ التمايز الطبقى فى المجتمع من خلال آليات تسويغ الفقر والغنى فيه، على اعتبار أنها ظواهر طبيعية تحكمها الإرادة الربانية، بما لا يبقى على ضرورة الانشغال بقضايا الحرية والعدالة والمساواة وضبط الانفجار السكانى. دليلنا إلى ذلك كتابات الإمام أبو حامد الغزالى فى مؤلفه «إحياء علوم الدين» ممجدا للفقر، ومعتبرا إياه فضيلة، مستندا لأحاديث نبوية فحواها: «يدخل فقراء أمتى الجنة قبل أغنيائها بخمسمائة عام» و«أحب العباد إلى الله تعالى الفقير القانع برزقه» و«الجوع عند الله فى خزانة، لا يعطيه إلا لمن أحبه». تسويغ هذه الأحاديث على مدى قرون من الظلم والفقر بمثابة تشكيل للوعى الزائف الذى جعل المستضعفين يهربون من ضعفهم إلى التدين الشكلى، والاختباء خلف أقمشة الفضيلة، رغم يقين الكثير من هؤلاء أن ضمائرهم فى العراء مكشوفة تنتظر فقط فرصة الانقضاض على فريسة عابرة.

الداعى للسخرية اليوم أن الكثير من رموز من يسمون أنفسهم بالليبراليين سواء كانوا من الحقوقيين أو الإعلاميين أو كتائب المثقفين أو حتى من المحسوبين على المؤسسات الدينية -بدلا من الدفاع عن قضايا الحرية والفقر والمياه والحق فى الصحة والتعليم والعدالة الاجتماعية انصرفوا بـ«شعبوية ليبرالية» ودينية لشرعنة تفاهات ملأت حياتنا، وشغلت الناس عن قضاياهم الحقيقية. آخر مشاهد التهافت الليبرالى المتاجرة الرخيصة بقضايا المرأة، إلى حد تحريضها ضد زوجها -بل وحتى ضد أطفالها الرضع. هذا التهافت والعهر الثقافى الشعبوى، وشرعنة خرافات ترفضها حتى المجتمعات الغربية المتوحشة رأسماليا، والتى يتقاضى البعض من هؤلاء أجر ليبراليته المستأنسة منها -يؤكد أن المجتمع المصرى ليس ضحية أوضاع اقتصادية خانقة، ولا حتى ضحية نوع من انحسار ديمقراطى- المجتمع المصرى ضحية «جائحة ثقافية» أصابته بتليف عقلى وعاطفى، وتكاد تهدده بسكتة وجودية.