عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

كان الولد الشقى السعدنى الكبير رحمه الله دائما ما يتذكر الكارثة التى حلت بمصر وهو طفل صغير عندما انتشر وباء الكوليرا فى بعض الاحياء الشعبية ولم يكن السعدنى وقتها يعرف شيئا عن الطاعون أو سمع به، ولكنه كره هذا المرض وظل يخشاه طوال عمره ولم أعرف السر إلا بعد ذلك بسنوات طويلة عندما اعتمد السعدنى المثل القائل.. إن كبر ابنك خاويه وفى رحلات الصيف والشتاء على طريقة قريش إلى بلاد الإنجليز بدأ الولد الشقى الجميل الممتع يبوح بأسرار لم يطلع عليها سوى شخصى الضعيف، وبدأ يحكى لى عن طفولته أولاً.. وهى الذطفولة التى خلدها فى رباعيته الرائعة الولد الشقى، والتى بدأت بالحارة وانتهت بالمنفى مروراً بالصحافة.. وكان ينوى كتابة الجزء الأخير «الولد الشقى فى مصر»، ولكن القدر لم يمهله الوقت ولا الصحة لكى يسجل ما جرى منذ عاد من المنفى وحتى مرحلة ما قبل المرض.. المهم أن السعدنى حكى لى حكايته مع الحارة وكيف أنه مجرد أن صلب طوله وأصبح يمشى على قدمين أصيب فى كل ركن فى البيت لمحاولته المشى مبكراً حتى اكتملت مرحلة التوازن، وما إن انفتح باب الشقة فى حارة سمكة على مصراعيه إلا وانطلق كما الحمام الزغاليل ينهب السلالم ويقفز كما الغزال فى البرارى. وكأن وحشاً كاسراً يطارده.. وما إن بلغ الحارة.. نظر يمينه ويساره فإذا به يلمح طفلاً فى نفس عمره وطوله وإن كان أكثر بدانة.. فقد عانى السعدنى طوال حياته من الهزال.. ويبحث السعدنى بنظره على الأرض ليكتشف زلطة مستديرة وكأنها كرة صغيرة.. فيشوطها وهو حافى القدمين فتتدحرج حتى تصل إلى الصديق الذى سيصبح هو رفيق عمر السعدنى بأكمله عبدالمنعم عثمان الذى استقبل هدية السعدنى بأفضل منها، فاستجمع قواه ورد التحية السعدنية بأفضل منها.. فقد تعدت الزلطة السعدنى واتجهت نحو الفسحاية التى كان الكبار يستخدمونها فى لعب الكرة وخصوصاً فى الدورات الرمضانية.. عبدالمنعم عثمان أصبح أحد أعظم خبراء الطرق والكبارى فى العالم ودرس فى أمريكا وأصبح أستاذاً فى كبرى جامعاتها وأغرم السعدنى وعثمان بنفس النوع من السيارات ويا للعجب باللون نفسه.. الفولكس فاجن التحفة الزرقاء.. أما ثالثهم فقد كان أحمد طوغان الذى سكن فى شارع أوسع بداخله حديقة غنّاء مع أنه يقبع وسط سوق الخضار الذى كان هادئاً.. شديد التنظيم.. بدون تدخل من الحكومة ولكن بفضل سلوك الناس فى الثلاثينيات من القرن الماضي.. وبالطبع اندهش السعدنى بأجواء الحارة وخصوصا البيوت التى كانت تزين الدور الأرضى، وأما زينة البيوت هذه فكانت سيدات مهذبات فاضلات إلا.. إذا.. داس أحدهم على طرف لهم يتحول التهذيب.. إلى تـأديب وإصلاح لأحدهم.. والأدب إلى قاموس مضاد لا يمكن أن تسمع بمفرداته خارج هذه الأحياء الغنية بأصناف البشر وكأنها خبيئة بشرية لا مثيل لها.. وذات يوم ومن خلال وسائل التواصل المتواجدة فى هذا العصر الأمتع.. وهى كلام الناس الذى لا يصدقه أبدا أحد إلا إذا جاء عن طريق الراديو.. انتشر خبر يفيد بأن الطاعون بدأ يحصد الأرواح وعلى اسطح المنازل حيث تقوم ست أم محمود بنشر الغسيل وجمع البيض من عشة الفراخ.. كانت أقوى وسائل التواصل بين سيدات هذا العصر.. ولكن ست أم حركي.. أم محمود.. وأم صلاح.. وأم منعم كانت الأمهات يشاركن الحديث ولم تكن الحاجة أم محمود معلقة اعتيادية فقد كان يخرج منها الدور بعينها عن طريق هذه السيدة ورث السعدنى خفة ظل لا مثيل لها.. وكانت ستى رحمها الله تقوم بجمع إيجار الشقق بنفسها وآه لو تأخرت إحدى الأمهات.. خصوصاً أم طارق أو أم نبيل أو أم سعيد.. ساعتها تجد ستى رحمها الله الفرصة مواتية للضرب والطعن والنزال فى حين خصومها أجمعين لا حول لهم ولا قوة أمام مدفعية ثقيلة وطيران منخفض وقصف لا سبيل لدفعه.. وكان ونيس السعدنى وكبيره فى البيت.. عندما منعوا الاختلاط والنزول إلا للضرورة القصوى شقيقه الأكبر... فهمي.. وبالطبع لم تكن فى ذلك العصر لا كاميرات ولا موبايلات ولا مصوراتية وإن وجدوا فالثمن باهظ.. وعليه فلم يتم توثيق حضور اثنين من الأبناء سبقوا السعدنى أحدهم اسمه عبدالحميد لم تكحل عين السعدنى برؤيته والثانى فهمى كان يكبره بعدة سنوات، 6 سنوات فكان له من العمر 9 سنوات عندما كان السعدنى فى الثالثة من عمره.. ولذلك فهو لا ينسى رسمه على الإطلاق ولا حنانه عليه.. فالأب الحاج عثمان كان منطوياً على نفسه من عمله إلى بيته.. لا يعرف طريقاً للمقاهى وليس له من الاصدقاء إلا قلة نادرة.

 كان يعمل فى شركة سكك حديد مصر موظفاً بسيطاً تمكن من خلال القروش التى كانت توفرها الحاجة أم محمود من بناء منزل متكون من أربعة أدوار.. لم يكن الحاج عثمان متكلماً ولا غيره.. العكس كان صحيحاً فقد استسلم للحاجة أم محمود التى امتلكت ناصية الكلام وأجادت حرب الكلام فتحول إلى مستمع جيد للغاية، ولم يجد من الوقت ما يسمح له للكلام مع الأولاد، أو مداعبتهم وعشق أم محمود للكلام جعلها تنفق كل الوقت فى ممارسة هوايتها مع الأمهات طوال النهار، وإذا لم تجد أحداً تكلمه تكلمت مع نفسها وكأنها الخطيبة لا يسلم من لسانها أحد، وهكذا تحول فهمى إلى الصديق والأخ الأكبر والهادى والمرشد للسعدنى الصغير، وذات يوم خرج فهمى لشراء الخبز واحتياجات البيت وعندما عاد شعر ببعض التعب وقررت أم محمود أنه فى حاجة إلى حمام ساخن وخضع فهمى لأمرها وشرب بعد الحمام كوباً من الشاى الدافئ ودخل يستلقى على سريره إلى الأبد وعبثاً حاولت أمه أن تجبره على الاستجابة لكلامها بأن يفز ويقوم من السرير ويظل الدلع الماسخ.. ولكنها اكتشفت أن فهمى أصبح أول ضحية للطاعون فى العائلة.. ويومها كره الولد الشقى الموت بعد أن حرمه من الحضن الدافئ والصديق الطيب والمعلم الأول.. وكان السعدنى يصف فهمى وابتسامة ساحرة ترتسم على محياه.. فيقول كان شعره أحمر زى جدك عثمان.. هو الوحيد اللى ورث شكله كلنا طلعنا شبه ستك أم محمود إلا فهمى علشان كده البنات فى الحتة كلهم زعلوا أوى لما مات. كل البنات كانوا بيحبوه ثم يقفز السعدنى إلى زماننا تاركاً ذكرياته ويقول.. انتوا زمانكم.. أفضل بكثير.. النهارده بقى فى علاج لكل الأمراض.. زمان الناس كانت بتموت ومش عارفين إيه السبب أو إيه المرض لكن دلوقتى الدنيا اتغيرت.

وأنا بدورى تذكرت هذه الحكاية تحديدا.. ونحن نعيش كابوساً لا مثيل له.. ولا حتى فى الشدة المستنصرية التى أكل فيها الناس القطط والكلاب.. وعندما اختفت.. بدأوا يأكلون بعضهم البعض..اليوم ينهش الكورونا فى لحم البشر ويفتك بالكل القوى والضعيف والغنى والفقير.. تذكرت حكاية السعدنى مع فهمى وأنا أجد ضحايا الكورونا وقد نجانى المولى عز وجل وكنت أظن أن الحالة كانت جيدة بفضل ضعف الكورونا التى أصابتنى ولكنى اكتشفت أنها نفسها التى قتلت الأصدقاء الأعزاء وآخرهم صديق وزميل كان متفرداً فى صفاته.. متميزاً بين أبناء جيله.. ولا سيما فى شكله وفى سلوكه.. إنه العزيز وائل الإبراشى الذى ذهب إلى لقاء ربه وقد أحدث رحيله موجة من الجدل تماماً كما برامجه ومقالاته. وائل كان صحفياً رائعاً وأذكر أن الأستاذة هالة سرحان تبنت عدداً من الصحفيين الشبان منهم وائل الإبراشى ومحمد هاني وآخرين.. ومما اشتركوا فى برنامج اسمه واحة الصحافة.. بعد أن شاهدت حلقتين فقط لا غير اتصلت بمحمد هانى وقلت له..لا طعم لكم باستثناء وائل الإبراشى فهو الأفضل وهو صاحب الإيقاع الحقيقى وصدق كلامي..فلم يستطع أحد الصمود وأعطى محمد هانى خلف الكاميرا ما جعل منه نجماً حقيقياً يقف خلف نجاحات الآخرين وانتشر الإبراشى وأصبح أحد النجوم السابحة فى الفضاء.. والشيء الجميل أن الإبراشى بعد وفاته.. تحول إلى ما يشبه الاسطورة.. فقد بدأت حكايات وقصص يبوح بها أصحابها واستمعت إلى قدر كبير منها من زملاء العمر الصديق الجميل إبراهيم خليل وأيضاً محمد الصباغ.. حكايات تشبه حكايات الغريب للرائع الراحل جمال الغيطاني.

حكايات بعضها يمكن نشره وأغلبها يصعب معها نشره على الإطلاق ولكنها تثبت أن وائل الإبراشى كان صديقاً تجده وقت الشدائد.. وتعتمد عليه فى الأزمات.. يقف إلى جانبك دون دعاية أو إعلان.. ومثل هذا الزميل أو الصديق.. أصبح فى عالم اليوم مثل الغول والعنقاء والخل الوفي.. لا وجود له.

وللحديث بقية