رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

حتى نلتقى

أعادنى الحفل الباهر لافتتاح طريق الكباش بالأقصر إلى ذكرى تاريخ قديم عامر بالفن والجمال، وبالتحديد إلى عام 1941، حين ترنّم الموسيقار الأعظم محمد عبدالوهاب بقصيدة (الكرنك) التى كتب أبياتها الشاعر أحمد فتحى (1913/ 1960)، ذلك الذى غنت له أم كلثوم رائعته (قصة الأمس) سنة 1958.

إن الذين شاهدوا الحفل الخميس الماضى 25 نوفمبر 2021 أذهلتهم براعة المصرى القديم الذى رسم ونحت وصمم المعابد ونظّم الأعياد واحتفل بالحياة، وحلاوتها، ومن المؤكد أنه من المحال أن يبدع إنسان كل هذا الجمال المعجز وهو يعانى من الضيم والجوع، الأمر الذى يوضح أن أجدادنا الأوائل ظلوا قرونًا عددًا فى بحبوحة من العيش والأمان والاستقرار، فلا إبداع من جائع أو مقهور.

أما فى عام 1941 فقد نفخ عبدالوهاب فى روح الحضارة المصرية القديمة بموسيقاه الآسرة وحنجرته الذهبية، وذلك حين ذهب إلى الأقصر وقضى بمعبد الكرنك ثلاثة أيام. أجل... يقول صاحب (الجندول) فى أحد حواراته، وبالمناسبة الاستماع إلى هذا العبقرى وهو يتحدث أمر بالغ الإمتاع أيضًا. يقول الرجل إنه حين قرأ قصيدة (الكرنك) انفعل بها وهضم تعبيراتها وبلاغتها، فغادر القاهرة إلى الأقصر بحثًا عن الأنغام المناسبة التى تليق بجلال المعبد وحضارة القدماء ونصاعة الشعر. ويضيف عبدالوهاب أنه ظل يتجول ليلًا فى أرجاء الكرنك محاطًا بالتماثيل الشامخة والصروح الضخمة مطاردًا فى مخيلته الأنغام التى تليق بجلال هذا المعبد العتيد.

وفى الليلة الأخيرة من معركته مع الأنغام المراوغة، أوحى إلى الفنان الفذ الجملة الموسيقية الافتتاحية التى كلما سمعتها تزلزل كيانى من فرط سحرها وقدرتها على السفر بى فى رحلة مثيرة إلى زمن الأجداد الأوائل.

يقول مطلع قصيدة الكرنك:

(حلم لاح لعين الساهرِ/ وتهادى فى خيال عابرِ

وهفا بين سكون الخاطرِ/ يصل الماضى بيُمنِ الحاضرِ

طاف بالدنيا شعاع من خيالي/ حائر يسأل عن سر الليالي

يا له من سرها الباقى ويا لي/ لوعة الشادى ووهم الشاعرِ)

ويواصل الأستاذ تجواله فى أركان المعبد مستعيدًا بنبراته المرهفة أحواله وذكرياته حتى يصل إلى:

(أنا هيمان ويا طول هيامي/ صور الماضى ورائى وأمامي

هى دمعى وغنائى ومدامي/ وهى فى حلمى جناح الطائرِ)

ويستمر الموسيقار الأكبر فى نجواه حتى نهاية القصيدة.

لكن اللافت هنا أن عبدالوهاب حين تغنى بالكرنك كان عدد المصريين نحو 17 مليون نسمة، وكان سكان القاهرة على موعد بعد خمس سنوات فقط، أى فى 1946 ليصل تعدادهم إلى مليونى إنسان، وهى أول عاصمة عربية وأفريقية تبلغ هذا الرقم المخيف آنذاك، فكيف تلقى جمهور هذه الأيام، قبل ثمانين سنة، قصيدة (الكرنك)؟ وكيف تمتع بها حيث كان الراديو لا يتوقف عن بثها كما قال لى الوالد الكريم؟

ورغم أن نسبة الأمية فى تلك الأيام كانت مرتفعة بشكل محزن، لكن الناس كانوا يمتلكون ذائقة رفيعة جعلتهم ينصتون بإعجاب إلى القصائد التى تغنى بها عبدالوهاب وأم كلثوم، فهل نطمع أن يعيد لنا الحفل الرائع لافتتاح طريق الكباش بعضًا من تلك الذائقة الرفيعة التى فقدنا الكثير من رونقها فى الأعوام الأخيرة؟