رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

أوراق مسافرة

لكزة أبوه بشدة فى كتفه النحيل، وهو ينفخ أنفاسه فى وجهه متمتمًا: يا رب يتمر وييجى بفايدة، فتحرك الطفل بفعل اللكزة من مكانه، واستند إلى «الفاترينا» الزجاجية حتى لا يقع، ثم أبعد يده بسرعة عنها حتى لا تقع بدورها، وصاحب المكتبة يحذره بلطف مصطنع: خلى بالك يا بنى.

تكرر مشهد اللكز والخبط على رأس الولد، مع كل طلب جديد يضعه صاحب المكتبة أمام الأب والولد من احتياجات العام الدراسى، زمزمية، مقلمة، لنش بوكس، أقلام جاف بعدة ألوان، كراسات، أغلفة، مسطرة، وأدوات هندسية أخرى، أستيكة، و... و.. أشياء كثيرة امتلأ بها كيس بلاستيكى ضخم، والأب لسانه تحول إلى «مبرد» يبرد به أعصاب ونفسية الولد، الذى تبدلت ابتسامته- وهو يقلب المستلزمات ويختار منها- تبدلت ابتسامته رويدًا رويدًا إلى وجوم، واحمرار بالوجه خجلًا وغضبًا، فأبوه يؤنبه، بل يذله بشراء الأشياء، ويردد له «يا رب يكون بفايدة وتجيب درجات عدلة»، «يا رب يتمر فيك وتذاكر»، الولد المسكين تلقى أول درس قبل بدء العام الدراسى، درس تهديد وإذلال، بأن عليه تحصيل أعلى الدرجات مقابل تلك الأشياء التى اشتراها له والده على مضض.

كنت أرقب الموقف أثناء شرائى بعض الاحتياجات من المكتبة، ولا أجرؤ على التدخل لإنقاذ الولد سوى بجملة «كل سنة وأنت طيب يا حبيبى ويا رب سنة جديدة سعيدة عليكم»، رمقنى الأب بنظرة استنكار، فلم أكمل ما كنت أنوى قوله، كان الوضع «مكهرب» بسبب سلوك الرجل وإذلاله لابنه بما يشتريه، واكتفاء الولد بهز رأسه طاعة وإيجابًا، وإذا بنفس المشهد يتكرر أيضًا بين أم واثنين من أبنائها «ولد وبنت»، وبدا الأمر كظاهرة غريبة، الآباء يشترون مستلزمات المدرسة بأسعارها النارية، ووفقًا لذوق أولادهم حتى لو تكلفهم ما لا فى وسعهم لإرضاء الأولاد، وكأنها «سلاح التلميذ» لخوض معركة النجاح، اعتقادًا أنه كلما غلا ثمن هذه الأشياء، تفوق الولد والبنت، وحصلا أعلى الدرجات، والمتناقض فى هذا، أنهم فى نفس الوقت «يسممون» بدن الأولاد بالكلام السيئ والإذلال والمن، وهو ما نطلق عليه دارجة «التقطيم».

مؤكد هؤلاء الأولاد فقدوا فرحتهم بالأشياء الجميلة الغالية أو حتى متواضعة الثمن التى اشتراها لهم الآباء، مؤكد أن لغة التهديد والوعيد والإذلال، تحفر فى أنفسهم بصمة سوداء ستلازمهم، ليس طيلة العام الدراسى فقط، بل طيلة حياتهم، ولن يقبلوا على الدراسة ببهجة ولا بنفس مفتوحة، بل بنفس مكسورة مذلولة، ستزداد نفسيتهم بالطبع سوءًا مع معاملة المعلمين لهم، خاصة فى مدارسنا القومية الفذة، أو حتى التجريبية، التى لا ينجو فيها الأطفال من «ك جى 1» وحتى بدء المرحلة الثانوية «سن التمرد والرفض» لن ينجوا من القهر، الإذلال، مصادرة أى أسئلة واستفسارات أو إبداع، تماشيًا مع سياسة التلقين، والحفظ بدون فهم، وأكداس الواجبات المنزلية اليومية.

السادة الآباء، لا تمنوا أو تذلوا أولادكم بما تشترونه أو تقدمونه لهم سواء مستلزمات دراسية، كتب خارجية، أو حتى دروس خصوصية، استبدلوا هذا بكلمات حب مثل «أنت عارف بحبك قد إيه ونفسى تكون أحسن واحد فى الدنيا عشان كده بشترى لك اللى إنت عايزه، وأنا واثق إنك ستجتهد وتذاكر عشان مستقبلك»، ولا ضير من احتضانه والربت على كتفه لا لكزه، وتزيين وجوهكم المجهدة المستنزفة بابتسامة، ليس ذنب الطفل البريء أن ظروفك المالية صعبة، وأن الحياة صارت نارًا، وأنك «تقطع من لحم الحى» لتعلمه وتوفى طلباته، عندما يكبر عقله وسنه سيدرك بنفسه كل شيء، ولكن لا تسمم عقله وبدنه وأعصابه بظروفك منذ نعومة أظفاره، فتجعل خطواته فى الحياة مرتبكة خائفة قلقة، وهو ما يؤدى ببعض الأولاد إلى الجنوح للنقيض، العناد، إهمال المذاكرة، عدم الاستيعاب، سوء التحصيل، درجات سيئة، الرسوب، وبعضهم يفكر فى الانتحار أو يقدم عليه، كما نرى بين من رسبوا فى الثانوية العامة، فالصبى يفضل فقدان حياته عن مواجهة لوم وتقريع وإذلال والديه له، لأنه رسب بعد الآلاف التى أنفقت على دروسه الخصوصية.

فى الواقع نحن نربى أولادنا «غلط»، القادر منا يوفر لهم كل ما يحتاجونه، ولكن من قبيل التظاهر، وإرضاء رغبات الأولاد المادية، وفى المقابل، لا نمنحهم الحب فى هذا العطاء، بل نكدر حياتهم .. وللحديث بقية.

[email protected]