رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

حتى نلتقى

 

عاتبنى بلطف شديد كثير من الأساتذة القرّاء لأنى كتبت مقالا واحدًا فى «الوفد» عن نجيب الريحانى. ذلك أن هذا العبقرى يستحق مقالا واثنين وعشرة كما قالوا، وزاد بعضهم مؤكدين أن بطل (غزل البنات) يستحق كتابًا شاملا على الأقل. والحق أن كلامهم صائب تمامًا، فعلى الرغم من أننا لم نشاهد من إنجازه الفنى العامر سوى أفلامه السبعة فقط، إلا أنها كافية لتهبنا المتعة المقطرة كلما شاهدناها، فالريحانى مثل أم كلثوم، ففى كل مرة ننصت إليها نكتشف المزيد من سحرها الأخاذ وهى تصدح وتترنم، وكذلك (سى نجيب) كما كانت تناديه مارى منيب، فكلما رأينا وجهه المحتشد بحزمة من التعبيرات العجيبة اعترانا فرح غامر نظرًا لبراعته العجيبة فى الًأداء.

عشرات المشاهد المدهشة ضمتها أفلامه، لذا من الصعب التوقف عندها كلها، لكنى سأكتفى بعدة مشاهد توضح كيف كان هذا الرجل سابقا عصره بأعوام طويلة كما قال نور الشريف، مع ضرورة الملاحظة بأن السينما فى زمن الريحانى كانت فى بداياتها، الأمر الذى يعنى أن أداء أبطال الأفلام اتسم آنذاك بالانفعال الزائد فى الصوت والحركة لأنهم قادمون من عالم المسرح، لكن الريحانى (رائد المسرح) تخلص بذكاء من هذه الطرق المبالغة فى التمثيل المسرحى حين دخل من باب الاستوديو. كيف؟ هنا تكمن العبقرية.

تذكر معى المشاهد الأخيرة فى (سلامة فى خير 1937) حين اكتشف أمره وقبض عليه، فجلس فى سيارة البوليس وهو مقيد وبجواره الشاويش رياض القصبجى. تأمل نبرة صوته المنكسرة، ورأسه المطأطئ خجلا من أن يراه أحد، وردوده المقتضبة على زميله السجين الجالس بجانبه، ثم تابع حسرته الدامعة وشهقاته التى تمزق القلب وهو يدافع عن نفسه أمام الأمير حسين رياض.

أما فى فيلم (سى عمر 1941) فكم كان رائعًا وهو مرتعب من (العلقة) المنتظرة حين طلبت منه ميمى شكيب أن يجلس لتناول العشاء، فصاح مذعورًا (بلاش عشا يا ست هانم... بلاش عشا... شبعان يا ست هانم شبعان)، لأن (العشا) يعنى (علقة) ساخنة من خدم الفندق الذى تقيم فيه ميمى.

فى فيلم (لعبة الست 1946) اضطر الريحانى كى يوقف سيل السخرية المنهمر من حماه عبدالفتاح القصرى على صغر حجم الفواكه المعروضة أمامه بالقياس إلى حجمها فى لبنان أن يشارك فى مباراة السخرية هذه حين سأله القصرى مستنكرًا وهو يخبط على بطيخة: (وإيه ده؟)، فقال الريحانى بنظرة أكثر سخرية (ده عنب، بس من تغفيلهم هنا بيسموه بطيخ)!.

من أهم مشاهد فيلم (أحمر شفايف 1946) حين دخل المطعم الفاخر مترددًا مرتبكا ليلتقى الخواجة ميشيل سكرتير مدير شركة الآلات الهندسية بحثا عن وظيفة بعد أن تضعضع حاله، ولم يكن معه سوى عشرة قروش فقط. المهم جلس على إحدى الطاولات منكمشا متعثرًا فى خجله لينتظر وصول الخواجة، ثم تفحص لائحة الطعام وأسعارها ولعابه يسيل على الأطعمة الشهية التى تقدم للزبائن، فاستقر على طلب (مكرونة بثمانية قروش) وهى أرخص وجبة، فصاح على الجرسون: (خد يا... أدينى واحد مكرونة باللحمة المفرومة)، فانصرف الجرسون فناداه الريحانى وهو يشدد على كل حرف: (اسمع.. من أم تمانية صاغ... مكرونة من أم تمانية صاغ).

ونأتى على تحفته الأخيرة (غزل البنات 1949)، ومشهده التاريخى فى قصر سليمان نجيب، وهو يرثى حاله بعد أن اكتشف أن (بتاع الكلب) يتقاضى ثلاثين جنيها شهريًا، فخاطب نفسه قائلا والحسرة تلون كلماته: (هه... ثلاثين جنيه... أنا لو من تمنتاشر سنة باعلم كلاب كنت دلوقت من الأعيان).

نجيب الريحانى رجل الإتقان المطلق، فمعذرة يا أستاذ... أنت تستحق مجلدات، وليس مقالا أو اثنين!