رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

الناصية

 

لم أشعر يومًا بالمهانة والمذلة لكائن مثلما شعرت به وهو يتشقلب كل ليلة أمام كل الناس، بمختلف أعمارهم وفئاتهم، وهو يرقص ويلعب ويتشقلب.. ويكاد يعمل عجين الفلاحة.. والكل يشاهده فى دهشة وإعجاب وكأنهما لم يرونه من قبل مع إنهم يرونه كل ليلة.. ومع ذلك لم يلحظ واحد منهم هذه السلسلة التى حول رقبته وطرفها فى يد صاحبه الذى يشده منها بعنف ليرجعه إلى الدائرة مرة أخرى، عندما يحاول أن يقترب من الأطفال، وهو يهز ذيله استعطافًا لعلهم ينقذونه من إهانته بهذا الشكل لتقليد الانسان.. وهو لا يريد سوى أن يكون كلبًا!

يوميًا.. أرى هذه المأساة غير الإنسانية على كورنيش الإسكندرية، التى يرتكبها رجل فى يده « رق» أو « طار».. ومعه طفل صغير يحمل شنطة تبدو أكبر وأثقل منه.. ثم يقف الرجل على الرصيف عند نقطة معينة يجد فيها عدد كبير من المصيفين وأهالى الإسكندرية يجلسون على سور الكورنيش.. ويبدأ بنقرات راقصة على « الرق» حتى ينتبه الناس ويدخل طفله ويضع الشنطة السوداء المغلقة أمامه وشيئًا فشيئًا تتحول النقطة التى يقفون عندها إلى دائرة تتسع وتكبر كلما زاد عدد المتفرجين المتشوقين ما بداخل هذه الشنطة الغامضة!

الغريب.. أن جميعهم تقريبًا يعرفون ما بداخلها، وجميعهم تقريبًا شاهدوا هذا العرض الفنى الشوارعى أكثر من مرة على نفس هذا الصيف أو فى أعوام ماضية.. ورغم ذلك الكل يقف منتظرًا ليرى ما يوجد داخل الشنطة، وكأنهم لا يعرفون.. وبعد خطبة مشوقة من الرجل عن الجهد الذى بذله فى هذا العرض والبروفات والأموال التى أنفقها حتى يكون بمستوى العروض العالمية فى أوروبا وأمريكا.. وإنه تلقى الكثير من الطلبات لعرض هذه الفقرة فى كل دول العالم ولكنه رفضها كلها من أجل بلده مصر وأهلها الذين يستحقون التضحية والفداء!

وبالطبع.. لا بد من التصفيق الحاد من الجمهور الذى يشجعهم على ذلك ابن الرجل الطفل الصغير الذى يظل يدور داخل الدائرة ليحافظ على قطرها ويمنع تجاوز الأطفال هذا القطر لتوفير أكبر مساحة ممكنة من الرصيف للاستعراض.. وبعد فترة من التشويق والاثارة يفتح الطفل سوستة الشنطة ويخرج منها بسرعة كلبًا أبيض صغيرًا وكأنه يريد أن يلتقط أنفاسه لأنه كاد أن يختنق فى الشنطة.. ولكن الرجل لا يعطيه فرصة ويشده من الحبل الذى يربطه حول رقبته ويلوح له بالعصى التى فى يده فيقف الكلب بسرعة على قدميه.. وكأنه إنسان!

يظل.. هذا الكلب الضعيف واقفًا على قدميه أكثر من نصف ساعة، مقلدًا طفلًا صغيرًا يجر عربة، أو يضع على رأسه كاب أو يرقص.. أو.. أو.. وكلما حاول أن يستريح ويقف على أربع شد الرجل الحبل وهدده بالضرب فيعود مرة أخرى يقف على ساقيه مع أنه مجرد كلب صغير لا يريد أكثر من اللعب مع الأطفال الذى كلما حاول الاقتراب منهم ويتودد إليهم يصرخ الرجل عليه فيعود للمشى منتصبًا فى ذل ومهانة!

وفى الختام.. يشير الرجل إلى الكلب ليعود إلى داخل الشنطة ويقوم الطفل بالمرور «بالرق» على الجمهور ليضع بداخله كل ما يجود به، وخصوصا الأطفال منهم جنيه أو نصف جنيه.. وبالطبع يتكرر هذا العرض من نقطة إلى أخرى على الكورنيش يوميًا.. ويوميًا يواجه هذا الكلب الصغير بشعره الأبيض الناعم المنسدل عليه، والذى تحول لونه إلى لون التراب، وكذلك هذا الطفل الذى أعتقد لا يتجاوز السادسة من عمره لهذه المعاناة.. مأساة حقيقية يعيشها الاثنين ولا أعرف أين حقوق هذا الطفل للحماية من التشرد، ولا حقوق الكلب للحماية من هذا الإذلال اليومى.. فهو يعمل بجد واجتهاد ولا أحسن موظف ولكن بلا مرتب سوى قوت يومه من رغيف خبز صغير!

[email protected]