فى لبنان الجريح الكلّ مستفيد؛ ولديه أوراق ضغط، فى ظلّ صراع على البترول وغاز المتوسط، وهناك العديد من الملفات التى تغرى القوى المتنافسة مع تقاطع الأجندات وتعدّد الاستثمارات من هذا المنطلق أرى زيارة الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون وكأنها ترسيخ لوجه لبنانى قديم، لم يتغير فيه سوى سطوة أكبر لباريس، والتى شاع فى الأوساط السياسية رضاها، بل تسميتها رئيس الحكومة المكلف مصطفى أديب أكبر دليل على ذلك؛ بالطبع ذكاء ماكرون السياسى جعله لا يقدم خطاباً حماسياً على أعتاب بيت فيروز وهى رمز لبنانى لم يخضع للطائفية، بل إنه اظهر نفسه بأنه يحمل غصون السلام بزراعته شجرة أرز فى بيروت المنكوبة. الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون خلال زيارته الثانية إلى لبنان، فى غضون أقل من شهر، منذ انفجار مرفأ بيروت كان أكثر هدوءاً، بوجه ألطف من الزيارة الأولى التى غلبت عليها العصبية وتوجيه الأوامر، فيما بدا فى الأخيرة كما لو كان فى زيارة لحديقة باريسية خلفية.
الى جانب أن أعلامه فى باريس والتابعين له فى لبنان يركزان على ما قاله: أتعهّد بأن «أبذل كلّ شيء حتى تطبق إصلاحات ويحصل لبنان على ما هو أفضل. أعدكم بأننى لن أترككم»، وبحرفية سياسية احتوى ردود أفعال المتظاهرين خارج بيت الفنانة فيروز، والتى استهلّ ماكرون جولته بزيارتها لارتشاف فنجان قهوة. ماكرون حقق ما أراد فى الزيارة الثانية، بعدما التزم الرئيس عون بتسمية رئيس الحكومة قبل وصول الرئيس الفرنسى للاحتفال بالذكرى المئة لتأسيس لبنان الجديد، ومتابعة ما حدث من إصلاحات. جاء ماكرون فى ظل حكومة تحمل خلطة سياسية توافقية، إذ إنها تحظى بغطاء سنى ومباركة من الطائفة التى يُفترض أن تشكّل الحكومة، كما أنها على علاقات طيبة مع الطائفة الشيعية، ورضا دولي، وتوافق فرنسى إيراني، إنها حكومة «تكنوقراطية» مهمتها الاولى الإنقاذ السريع، لذلك تحتاج «موظفين وإداريين» وليس سياسيين.
واللافت أن تكليف أديب، وهو الدبلوماسى الذى لا يحظى بإطلالة سياسية، لم يكن التحرك الوحيد الذى سبق حضور ماكرون إلى لبنان، ولكن هناك محاولات الشباب اللبنانى والحركات والأحزاب المنخرطة فى الحراك تنظيم صفوفهم على أمل لعب دور فى المستقبل؛ ومع ذلك فإنّ أقصى ما يمكن للحراك الوصول إليه هو أن يفرض نفسه لاعباً على الساحة، وأن يفرض بعض الشروط التى تؤدى فى النهاية لتأسيس دولة.على الجانب الاخر هناك وجهة نظر أن الضغط الباريسى يصبّ فى صالح تقويض نفوذ إيران وحزب الله، حيث النفوذ المتغلغل للخارج فى قرار لبنان.
وجميعنا نعلم أن هناك «خريطة طريق»، سلّمها السفير الفرنسى فى بيروت إلى المسئولين، تضمّنت «الإصلاحات الضرورية»؛ وهناك تعهّد برعاية باريس لملف المساعدات لإعادة إعمار بيروت، لكنه ربطها فى الوقت ذاته بإصلاحات يجب القيام بها.
وفى الحقيقة الواقع يؤكد أنّ لبنان أصبح مسرحاً دولياً للصراع؛ بينما الفساد يستشري، وقد نستيقظ على وضع كارثى جديد، لأن هناك خللا كليا فى موازين القوى، ولم يستطع أحد حسم أيّ صراع لصالحه بشكل كامل، ولا يمكن فصل ما يجرى فى لبنان عن السياق الإقليمى العام، هناك أزمات كبرى تعانيها كلّ مراكز القوى، إسرائيل تواجه مشكلات اقتصادية وقضايا فساد، وموسم الانتخابات الأمريكية يقترب وسط أزمات اقتصادية، واضطرابات عنصرية، والمتغيرات التى فرضها انتشار فيروس كورونا، من الممكن تقليم أظافر حزب الله وحصاره اقتصادياً، لكنّ المواجهة معه لن تتم، فى ظلّ هذا الخلل، فقط تتمّ فى حالة التسوية النهائية لكلّ صراعات المنطقة، أمّا الآن، فنحن فى مرحلة المحاربين بالوكالة عن الآخرين، وبالطبع ماكرون يعلم كل ذلك ويستثمره ويجيد اللعب على تناقضاته.