عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

على فكرة

كنت فى الثانوية العامة حين وقعت هزيمة يونية 1967 وبعد أقل من عامين، كنت واحدة من مجموعة من الشباب الجامعى شارك معظمهم فى مظاهرات الطلبة الساخطة على الهزيمة والمطالبة بمحاسبة المسئولين عنها ومحاكمتهم.

وفى هذه الأيام كنا نتداول بفرح غامر وشعور مبالغ فيه بالغموض والأهمية كتاب «صادق جلال العظم» الرائد «نقد الفكر الدينى» الذى صدر عام 1969، واكتسب ريادته من أنه أول تناول نقدى بعد الهزيمة للأفكار الدينية التى تروج للشعوذة والخرافة، والتى تستخدم الدين فى السياسة وتبرر الطغيان والاستبداد، ولا تفضى سوى إلى الهزائم.

وفى هذا الوقت ازداد ولعنا بالكتاب حين وجدنا بين طياته إشارات لحيرتنا، وبعض اجابات عن أسئلتنا لا سيما بعدما أبدى المؤلف دهشته من النشر الموسع آنذاك فى الصحافة المصرية لما أشيع أنه ظهور للسيدة مريم العذراء فى كنيسة الزيتون، فى إطار سعيه الشجاع كمفكر ماركسى وأستاذ للفلسفة، لمواجهة الأبنية الفكرية والثقافية والعقائدية السائدة فى المجتمعات العربية التى ترسخت وقادت إلى الهزيمة، وتفنيد عناصرها التى تخاصم التفكير العلمى العقلانى، وتتصادم مع حقائق العصر ومنجزاته، وفى القلب منها الأصول الاستبدادية للاستخدام السياسى للدين، وهى أصول تبنى على القمع والخوف والتجويع، وممارسة كل أشكال الاستعباد، وهى بطبيعتها أصول معادية للحرية والمساواة والكرامة الإنسانية، وللعلمانية، التى تتجلى فى الفصل بين الدين والدولة وليس بين الدين والمجتمع.

وكان هذا هو الدرس الأول الذى تعلمه جيلنا من صادق جلال العظم، أنه ليس بمقدورنا أن نتغلب على الهزيمة التى لحقت ببلادنا، بغير بناء مجتمع عربى حديث، يؤمن بالتفكير العلمى والعقلانى المنظم، الذى يسعى للتحرر من الجهل والشعوذة والخرافة والأوهام، ويضيء عقول عموم الناس بأساليب معينة فى التفكير، لمعالجة حتى مشاكل حياتهم اليومية العابرة، تستند إلى مبادئ عامة تقول باستحالة أن يحدث شىء من لا شيء، أو أن يتأكد الشىء ونقيضه فى نفس التوقيت، وتمنحهم وعياً نقدياً بديلاً ليس لمجريات حياتهم فحسب، التى تصبح آنذاك أكثر إنسانية، بل تصوغ نظرتهم وعلاقتهم بمن يحكمونهم.

ولأن بنى الاستبداد والرجعية كانت– ولا تزال– بنى راسخة عميقة الجذور فى المجتمعات العربية، لم يسلم صادق جلال العظم من ملاحقة قوى التكفير الظلامية التى اجتاحت بلادنا منذ بدايات القرن العشرين، ولا تزال هجماتها التكفيرية مستمرة حتى اليوم. 

وكان محظوظاً لأنه نجا من مصير الاغتيال الذى طال المفكرين حسين مروة ومهدى عامل ومن بعدهما فرج فودة، وكان من نتائج تلك الملاحقة أن تم اعتقاله لبعض الوقت ومحاكمته فى بيروت، هو ودار الطليعة التى نشرت كتابه، بتهمة ازدراء الدين وإثارة النعرات المذهبية والطائفية، ليكون من اوائل الكتاب والمفكرين العرب الذين يحاكمون بسبب أفكارهم، ولأن الدستور اللبنانى يصون حريات الرأى والفكر والتعبير، فقد برأته المحكمة من تلك التهم العاجزة، التى لم يستطع مطلقوها أن يحاجوا رؤيته الجسورة بكتاب مضاد لكتابه نقد الفكر الدينى، فسارعوا إلى تكفيره واتهامه بالإلحاد، وتقديم بلاغات لحبسه ومحاكمته، وطاردوه حتى فى لقمة عيشه، ولم تتحمل شجاعته الفكرية الجامعات العربية التى عمل بها استاذا للفلسفة فى لبنان والأردن وحتى فى بلده سوريا، بعد أن ضاقت الأنظمة الحاكمة بتحلق الطلاب العرب حوله، وتأثرهم بأفكاره التحريرية والتقدمية، وأصبحت كتبه وأفكاره فى مرمى نيران تيار الإسلام السياسى الذى أخذ فى التصاعد فى العقود الأخيرة، فغادر المنطقة برمتها، دون أن يقطع صلته بأحداثها، ليصير علماً أكاديميا فى الجامعات الأمريكية والأوروبية والأسيوية، ويحتفى بإنتاجه الفكرى الذى ينتصر للحرية وللإنسان بترجمة كتبه إلى مختلف لغات العالم.

وإذا كان من المؤلم أن يرحل صادق جلال العظم- 82 عاما- الأسبوع الماضى فى منفاه بألمانيا التى استقر بها فى السنوات الأخيرة، فمن المؤكد أن اسهاماته الفكرية المتنوعة، قد غدت منبع إلهام لإضاءة الطريق نحو التقدم والتحرر والعقلانية.