عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

وقعت هذه الحادثة قبل أكثر من عشرين عاما. كنت أسير فى ميدان طلعت حرب متجهة صوب  مبنى حزب التجمع  الذى يقع على ناصية  الميدان حين التقيت به وجها لوجه. كان قد اختفى لعدة أساييع من التواجد بمقر الحزب الذى اعتاد أن  يمر عليه بشكل شبه يومى بعد الانتهاء من أداء عمله  القانونى بمكتبه، حين وجدته  أمامى رحبت به  بحرارة  وبابتسامة عريضة وضحكات متقطعة متسائلة : كنت فين  ياعم وحشتنا. لم يتلق ترحيبى الحار بمثله، بل بابتسامة منكسرة لم تكن معهودة منه، وهو الساخر الضاحك الذى إن لم يجد مايسخر منه، سخر من نفسه. حين سألته ما الأمر؟ أجاب بحزن عميق: أمى ماتت. ماكاد ينهى جملته حتى انفجرت  فى موجة من الضحك المتواصل، الذى لم يوقفه سوى رؤية  دموعه التى باتت  تنهمر بغزارة  على خديه بعد أن سألته ساخرة: هى أمك كانت  لسه عايشة؟ لم أكن أدرك لحظتها مقدار القسوة والغلظة فى السؤال الذى طرحته، وكنت أتصور أن هذا التصرف الأرعن يمكن أن يدفعه للتجاوب معى فى مواصلة السخرية وإعادته إلى حالته المرحة. لكن فقد الأم فجيعة مهما تمدد عمرها ،لا يقلل من ألمها سخرية رعناء.

كان هو المناضل اليسارى «شحاتة هارون» أحد اليهود القلائل الذين رفضوا  التخلى عن جنسيتهم المصرية ومغادرة مصر فى أعقاب قرارات شعبوية متعجلة وغير مدروسة، لدفع اليهود العرب إلي مغادرة بلادهم، مع تصاعد الصراع العربى ـ الإسرائيلى، فكان من المفارقات  المؤلمة أن تلك القرارات لم تنصر الحقوق العربية ، ولم تخدم سوى إسرائيل.

 جاب شحاتة هارون سجون مصر الملكية والجمهورية على امتداد عقود، دفاعا عن مبادئه التقدمية  ووطنيته  وتمسكه بنيل الإنصاف وتحقيق العدالة، ووصف نفسه بأنه «مصرى حين يضطهد المصريون ،وأسود حين يضطهد السود، ويهودى حين يضطهد اليهود، وفلسطينى حين يضطهد الفلسطينيون». انطبعت معاناته من فرط طول فترات الاعتقال وكأقلية دينية وسياسية على ملامح وجهه الطفولى، وحفر الزمن خطوطه على قسمات هذا الوجه، فبدا دوما وفى كل الأزمنة، أكبر من عمره الحقيقى، شيخا طاعنا فى السن يحمل قلب طفل  يمتلئ بالمحبة والتسامح والتعالى على الألم بالسخرية المرحة. الجالبة للضحك والفرح. كان كذلك منذ التقيت به  للمرة الأولى عند تأسيس التجمع، وظل كذلك وحتى وفاته عام 2001 عن عمر يناهز 81 عاما. وربما كانت هذه الصورة الذهنية التى تشكلت عنه وراء سؤالى الأحمق الساخر.

تذكرت هذه الواقعة بخجل بالغ،  بل بمشاعر من  الخزى والعار، عند متابعتى لواقعة الواقى الذكرى وللبحث عن تفسير لهذه الطريقة الغليظة  فى التعبير عن الرأى. وبرغم الفارق الشاسع بين الواقعتين، إلا أنهما تشتركان  فيما يمكن تسميته بالاستخدام الفظ والشرير للسخرية . حيث قام اثنان من الشباب غير عاطلين بعمل ينطوى على قصد إلحاق الإهانة برجال الشرطة فى يوم عيدهم. فأحضرا عددا من الواقيات الذكرية ،ونفخوها لتبدو على شكل بالونات وكتبا عليها تهنئة « من شعب مصر إلى الشرطة فى 25 يناير» ونزلا ميدان التحرير لتوزيعها على جنود الشرطة الذين كانوا، وسط صقيع يناير ، يؤمنون الميدان من تهديدات الإرهابيين. وإمعانا فى الأذى التقط الشابان صورا تذكارية مع الجنود، وواصل أحدهما تهكمه بأن سجد على أرض الميدان ليقبلها وهو يهتف لمصر، بينما  يجرى فى نفس الوقت تصوير تلك المشاهد، ليتم ترويجها بكثافة فيما بعد على شبكات التواصل الاجتماعى، مع شرح يتسم بالتفاخر والمباهاة بكيفية إتمام تلك الخديعة!

من أى نبت خرج هؤلاء الشباب المراهقون، الذين يفتقدون الوعى والثقافة وقبلهما الأخلاق، ويتذرعون بالغضب والاحباط من واقع لا يحتملونه ولا ينسبون له أية فضيلة، كى يستهينوا بتضحيات من يقفون فى قلب الخطر، ليحيوا هم حياة آمنة ، بسخرية سفيهة جاهلة ، تمتهن الكرامة، وتسعى للازدراء والتحقير والتشهير؟ وهل يعد هذا تعبيرا عن حرية الرأى ،أم اعتداء متبجحا على حرية الآخرين وسعيا لاضعاف معنوياتهم والتحريض عليهم؟ وكيف تكونت عقول هؤلاء الشباب بشكل يكشف عن غلظة فى النفس والوجدان  والروح وقسوة فى المشاعر، تنتعش بمضاعفة الأذى الناجم عن سخرية جبانة، تتستر وتتخفى لنشر شرورها، وتهكمها السمج وعبثها الفج  الوضيع، دون الاهتمام بعواقب هذ اللون من التهكم  الهزلى العاجز والفاجع؟

أما لماذا هو فاجع، لأن التوجه الذى ساد على امتداد السنوات الخمس الأخيرة، و أسفر بقصد أو بدونه، عن تأجيج صراع مفتعل بين الأجيال، قد أوجد قطاعا لا يستهان به من شباب على شاكلة الألتراس الكروى وغيرهم، على درجة من الغرور والجهل والانغلاق على الذات، يظن معها أن كل ما يقوله ويفعله هو الصواب الخالص النقى، وما عاداه ليس خطأ فحسب، بل غير موجود أو معترف به من الأصل!

ولو أن الحال ليس ذلك، لأدرك الشباب العابث الذى أعد وصور ونشر مشاهد البلالين الخادعة، أن مشكلتهم الحقيقية ليست مع الشرطة، بل مع أنفسهم، ومع قلة وعيهم  وثقافتهم، وضعف ادراكهم، واستمرائهم  لوضع الضحية وحالة المظلومية التى يريدون أن تظل هى صورتهم  الدائمة مهما تغيرت الظروف وتبدلت الأحوال. لو أن الحال عكس ذلك، لتعلم هؤلاء الشباب كيف يتحكم فى مشاعر الغضب والاخفاق والرفض، ولقدس الكرامة الإنسانية التى كرمتها الأديان، وصانتها القوانين والدساتير بدلا من الاستهانة بها والحط من شأنها.

هل يكفى هؤلاء ما نالوه من ازدراء اجتماعى واسع كى يقبل اعتذارهم عن هذا العمل المشين؟

فى رأيى لا يكفى، والاعتذار غير مقبول إلا فى حالة واحدة فقط، أن يقبل به رجال الشرطة الذين كانوا هدفا لهذا العدوان البذىء، وفى يدهم وحدهم دون سواهم أن يتسامحوا ويغفروا لهؤلاء المراهقين الصغار عبثهم الشرير.