عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

المغربي فؤاد زويريق: "الفول المدمس" رمز للمصري الحقيقي

بوابة الوفد الإلكترونية

 لم تحظ أي دولة في العالم بمكانة وقيمة مصر، عشقها كل من سمع عنها وتمنى رؤيتها بل والعيش فيها، وتظل زيارة مصر رغبة كل إنسان للاستمتاع بجوها وآثارها وكرم ضيافة شعبها.

 وقديمًا قال ابن الكندي المصري: "فضل الله مصر على سائر البلدان، كما فضل بعض الناس على بعض، والأيام والليالي بعضها على بعض، والفضل على ضربين: في دين ودنيا، وفيهما جميعًا، وقد فضل الله مصر وشهد لها في كتابه، بالكرم وعِظم المنـزلة، وذكرها باسمها، وخصها دون غيرها، وكرر ذكرها، وأبان فضلها في آيات من القرآن العظيم، تنبىء عن مصر وأحوالها، وأحوال الأنبياء بها، والأمم الخالية، والملوك الماضية، والآيات البينات، يشهد لها بذلك القرآن، وكفى به شهيدًا.

 وكثير من الشعراء العرب كتب عن مصر، وعالميًا كتب الشعراء والفنانون عن مصر الكثير، وقد عاش في مصر الشاعر اليوناني "كافافس" والذي تحول بيته بالإسكندرية إلى متحف ممتلي بالقصائد التي خطها بيده، بعضها يتغزل فيها بمصر والإسكندرية التي أطلق عليها أجمل إسكندرية في العالم؛ باعتبار أن العالم يضم عددًا كبيرًا من المدن تحمل الاسم نفسه.

 واليوم يواصل الكاتب المغربى زويريق فؤاد، عاشق مصر حتى النخاع، حكاياته عن معشوقته: منذ طفولتي المبكرة وأنا أسمع عن الأكل المصري، بل بكثرة ما كنت أسمع به في الأفلام والمسلسلات المصرية حفظت كل أنواعه تقريبًا وعن ظهر قلب، كالكشري، والملوخية بالأرانب، والمحشي، والفول المدمس، والحمام بالفريك، والبمية، والطواجن، والعكاوي، والمسقعة، والطعمية، والبسطرمة بالبيض، والكوارع، وسندويشتات الكبدة، والكباب...الخ، بل حتى مكونات وطريقة طبخ بعض هذه الأكلات تعرفت عليها، واجتهدت في طبخها بنفسي لكني للأسف فشلت فشلًا ذريعًا؛ لأكتشف من بعد أن الأكل المصري لن يستقيم بدون ''نَفَس'' الست المصرية الأصيلة، ولن ينجح طهيه بطريقة ناجحة إلا في بيئته الطبيعية أي في مصر نفسها، بل بعضه يحتاج إلى شهقة الأم المصرية وبدونها سيفقد طعمه ولذته، قد يكون ما أقوله يميل إلى العاطفة والرومانسية أكثر منه إلى المنطق، لكن في الحقيقة أقف عاجزًا عن تفسير بعض الأشياء منطقيًا، فهناك سر ما أجهله في هذه الأمور بالذات فحتى لدينا في المغرب ''طبيخ'' الأم يكون ألذ وأطعم من طبيخ أي أحد آخر حتى ولو استعمل نفس المكونات.

 على العموم فرغم هذا كله لم أنل فرصة تذوق هذه الأطعمة إلا مؤخرًا أثناء رحلتي الأخيرة إلى القاهرة، كنت أهرب من أكل الفنادق لأغوص في الأحياء الشعبية ومطاعم وسط البلد لاسكتشاف الأكل المصري الأصيل والاستمتاع به، كنت مشدوهًا ومسحورًا ليس فقط بلذة هذه الأطعمة لكن أيضًا بطقوس الأكل الجماعي في المطاعم الشعبية، سواء الداخلية منها أو المفتوحة، طقوس حميمية تجمعك أنت الغريب بأسر وعوائل مصرية داخل مكان ضيق وفي بعض الأحيان على مائدة واحدة فتنفجر في تلك اللحظة بالذات مصريتك المكبوتة داخلك، فتخرج من قمقمها لتصبح بدون مقدمات جزءًا من هذه الحميمية وكأنك في بيت مصري أصيل، حيث تنطلق في الأكل والحديث بكل أريحية بعيدًا عن ذاك" البرستيج" المصطنع.

 ثق أنك لن تكون وحدك في هذه المطاعم

ولن تشعر بالغربة فإن لم يجمعك الكلام مع هذا أو ذاك، فسيجمعك الحديث مع هذه الأسرة أو تلك، بل في بعض الأحيان وأنت في خضم الحديث تُقتَرح عليك عزومة ما أو دعوة إلى بيت من البيوت المصرية فقط لأنك غريب أو بالأحرى مغربي شقيق كما يحبون مناداتك، طبعًا الأكل في البيت سيكون له طقس وطعم آخر، لكن حتى أكل هذه المطاعم يفي بغرض سائح مثلي أتى إلى مصر؛ لاستكشاف تفاصيلها وخباياها، ومن إيجابياتها البارزة: إجبارك على الجلوس جنبًا إلى جنب مع المصريين ومشاركتهم مائدة واحدة وحديث موحد، والأهم ذاك ''العيش والملح'' الذي يجمعك بهم، فإن شاركك المصري عيشه وملحه فاعلم أن دمك اختلط بدمه وأصبحت له أخًا وشقيقًا وحرمت عليك خيانته كما حرمت عليه خيانتك، فعبارة ''العيش والملح'' في مصر تشي بالكثير وحمولتها ثقيلة وفريدة ومقدسة أيضًا، فهي رمز المصري الأصيل المتسم بالشهامة والوفاء والرجولة، وليس من السهل على المصري أن يشاركك شهامته ووفاءه ورجولته فهذا شرف عليك صونه والحفاظ عليه إلى الأبد.

 من بين كل تلك الأطعمة المصرية التي تذوقت، أحببت وعشقت الفول المدمس، أكلة بسيطة في مكوناتها لكنها لذيذة جدًا وغنية بفوائدها الغذائية، أكلة تعبر عن معدن المصري الأصيل، حتى طريقة تسويته لا تحتاج إلى العجلة والسرعة التي أصبحت تميز هذا العصر، تلك السرعة التي أجهزت على الكثير من الأطعمة التقليدية الأصيلة، فالفول المدس في مصر مازال يحتفظ بأصالته وطبيعته إذ لا بد أن يطهى على نار هادئة ولفترة طويلة من الوقت وإلا فلن يحتفظ بلذته المعهودة، طعم الفول ونعومته يحيلانك إلى الأرض إلى الطين إلى الأم، يحيلانك إلى نوستالجيا الزمن الجميل وعبقها التاريخي، وأنت تأكله برغيف العيش البلدي تشعر بأنك أصبحت مصريًا وليس أي مصري بل ذاك المصري الوفي لأرضه ووطنه، ذاك المصري الطيب المسالم والجبار العنيد في ذات الوقت، الفول المدمس ليس أكلة وكفى، بل هو رمز للمصري الحقيقي، ابن البلد بجد، وشعار يجمع ماضي مصر بحاضرها.