عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

محسن محمد.. ناظر مدرسة الصحافة المصرية

زاهي حواس
زاهي حواس

كان الثلاثاء الأول من شهر مارس (آذار) الماضي يوما مشمسا تحوطه نسمة هواء بارد نقي على غير عادة هواء القاهرة المزدحمة دائما، وكنت أعبر الميدان الذي يفصلني عن مكتبي بحي المهندسين وأنا منهمك في التفكير في أحوال الناس، وأتعجب من أمور الدنيا ومن هؤلاء الذين يملكون القلم وتخلوا عن ضمائرهم، فلا يتوانون عن قذف الشرفاء بالحجارة والنار في عشوائية لم أرها من قبل.

ووسط هذا الخضم يرن جرس الهاتف لأجد محسن محمد ومن دون مقدمات أجده يقول وكأنه كان يشاركني أفكاري: «أرجو ألا تيأس»! وبدأ يحكي لي تجربته مع الحاقدين والوصوليين ممن كان يعدهم من تلامذته فوجدهم ألد الأعداء.. انقلبوا عليه وقالوا عنه كل ما لا يتحمله بشر. وضحك وهو يستدرك قائلا: «أحمد الله أن الشيء الوحيد الذي لم ينعتوني به هو الشذوذ»! وضحكنا وودعته، على أمل اللقاء، وللأسف كان الوداع الأخير دون أن أدري، ومات محسن محمد دون مقدمات، تاركا ميراثا فكريا سيبقى لأجيال كثيرة من بعده.
وكعادتنا كبشر، لا نحس بقيمة ما بين أيدينا ويحيا بيننا إلا بعد أن نفقده وللأبد.. بعدها نشعر بالندم والألم ونقول ليتنا كرمناه.. ليتنا قدرناه وضممناه إلى قلوبنا وأشعرناه بقيمته لدينا؛ ولنا في محسن محمد المثل، فهو مدرسة متميزة في الصحافة المصرية؛ حياته كلها الكتابة والقراءة، حتى إن الصحف والمجلات المصرية كانت تنشر له أسبوعيا ويتعجب الناس كيف وهو مريض يكتب هذا الكم من المعلومات والأخبار التي لا يعرفها أحد! لم تكن الصحافة مهنته، وإنما معشوقته، يلتهم كل صباح جميع الصحف التي تصل إليه بالعشرات من كل أنحاء العالم، حتى تلك التي تصدر في أميركا اللاتينية، ومنها كان يعرف كل كلمة تكتب عن مصر، وكان يأتي بكل خبر جديد عن مصر والعالم، فكان بحق نافذتنا على العالم الخارجي، وذلك قبل ظهور الإنترنت وثورة الفضائيات. وظلت الوثائق هي هوايته والبحث فيها وسبر أغوارها للكشف عن الحقيقة هي متعته الحقيقية في الحياة، وسيظل مؤلفه العملاق «التاريخ السري لمصر» وثيقة مهمة لأكثر فترات التاريخ المصري المعاصر غموضا، وكذلك كتابه «من قتل حسن البنا»، والذي هو بحق قراءة ممتعة لوثائق ورسائل لا نعرف كيف وصل إليها محسن محمد، أو كم كلفه

الوصول إليها ليقدم لنا كتابا يضعنا وجها لوجه مع الحقيقة دون تدخل منه، سواء بالرأي الصريح أو حتى التلميح. أما عن كتابه الممتع في التاريخ الفرعوني «سرقة ملك مصر»، فقد سافر محسن محمد إلى لندن، وذهب إلى دار الوثائق البريطانية، واطلع على كل كلمة كتبت عن ظروف كشف مقبرة الفرعون الصغير توت عنخ آمون، واستطاع أن يعيدنا إلى عام 1922 عندما كشف هيوارد كارتر المقبرة بتمويل من اللورد كارنارفون الذي تورط في سرقة بعض من كنوز المقبرة، وقدم محسن محمد أدلة جديدة على تورط هيوارد كارتر في نهب المقبرة؛ ويعتبر بذلك المؤرخ العربي الوحيد الذي كشف سر سرقة ملك مصر.
وكان هذا الكتاب هو أحد أسباب إصراري على دعوته لحضور افتتاح معرض آثار الملك توت عنخ آمون في شيكاغو بالولايات المتحدة، رغم حالته الصحية وتحركه على كرسي متحرك. وأذكر أننا بمجرد وصولنا معا إلى الفندق بمدينة شيكاغو؛ وقبل أن يدخل إلى غرفته، طلب من المرافقة أن تصحبه إلى أقرب محل لبيع الكتب، وعاد وهو يحمل مجموعة جديدة من الكتب في السياسة والاجتماع.. وعندما كنا نذهب إلى أي مكان تجده جالسا على كرسيه صامتا يتصفح جريدة أو يقرأ كتابا.
نجح بإخلاصه في العمل وتفانيه في أن يطور جريدة «الجمهورية» ويحولها من جريدة لا يشتريها أحد إلى واحدة من أكثر الصحف المصرية توزيعا عندما كان رئيسا للتحرير.
وداعا محسن محمد.. ناظر مدرسة الصحافة المصرية، وأحد كبار مثقفيها.
نقلا عن صحيفة الشرق الاوسط