رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيسا التحرير
ياسر شورى - سامي الطراوي
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيسا التحرير
ياسر شورى - سامي الطراوي


في زمن يتشكّل فيه المستقبل وفق معادلات غير مسبوقة من التفاعل بين الإنسان والتقنية، يقف التعليم العربي أمام اختبار حضاري يتجاوز حدود التحديث الأداتي، ليطال عمق الرؤية التي نمتلكها تجاه المعرفة، والهوية، وموقعنا من الثورة الرقمية. فلم يعد الذكاء الاصطناعي تطورًا تقني في سياق أدوات التعلم، بل بات جزءاً من معادلة أوسع تُعيد رسم العلاقة بين من يمتلك المعرفة ومن يتلقاها، وتؤثر في الطريقة التي نُقدّم بها لغتنا وثقافتنا، وتنعكس أيضًا على من يملك النفوذ في إنتاج المعرفة وتوجيهها.
في هذا الإطار، لا يمكن اختزال حضور الذكاء الاصطناعي في المدرسة العربية كقضية تكنولوجية محضة، بل ينبغي النظر إليه كعنصر فاعل ضمن بنية القوة المعرفية المعولمة. فالقدرة على إنتاج المحتوى وتوجيه مسارات التعلم أصبحت جزءًا من تنافسية عالمية تتداخل فيها السياسات اللغوية، والاحتكارات الرقمية، والبُنى العميقة للتمايز الثقافي. وبهذا المعنى، فإن أي مقاربة جادة لإدماج الذكاء الاصطناعي في التعليم العربي ينبغي أن تبدأ من فهمه بوصفه فضاءً للصراع على المعنى، لا مجرد أداة لتسريع التعلم أو تخفيف الأعباء.
في السياق العربي، ثمة مفارقة واضحة؛ فبينما تنفتح الفرص أمام إدخال الذكاء الاصطناعي في الفصول الدراسية، يظل المحتوى الرقمي العربي ضعيفًا من حيث الكم والنوعية. هذا الضعف لا يُعد مجرد نقص في البيانات، بل انعكاس لتراجع الاستثمار في اقتصاد المعرفة، وتهميش اللغة العربية ضمن الأطر التقنية العالمية. إن غياب نماذج لغوية عميقة تستوعب البنية العربية المعقدة، وتُحاكي ثراءها الدلالي، يُشكّل ثغرة استراتيجية تُهدد السيادة المعرفية للمنطقة في عالم تُدار فيه المعرفة بالخوارزميات.
وهنا، يظهر دور الدولة بوصفها فاعلًا معرفيًا، لا مجرد منظم للتقنية. فمن دون سياسات وطنية تُعيد الاعتبار للغة، وتستثمر في البحث والتطوير لبناء بنى تحتية معرفية قادرة على استيعاب الذكاء الاصطناعي وتوجيهه، سيظل التعليم العربي مفعولًا به في معادلة معرفية لا تُنتجها مؤسساته، بل تُستورد من خارجه. والمقصود بالسياسات هنا ليس الدعم الرمزي أو إطلاق المبادرات المؤقتة، بل بناء منظومات معرفية تشتبك مع الذكاء الاصطناعي من موقع الفاعلية، وليس التلقي.
ولا بد أيضًا من مساءلة النماذج التربوية التقليدية التي ما زالت تهيمن على المدارس والجامعات العربية. فالمعلم الذي يُقوّم الطلاب وفق مناهج تلقينية جامدة، سيجد نفسه عاجزًا أمام أنظمة تعليمية تفاعلية تُعيد تشكيل معنى الفهم ذاته. وهذا يتطلب إعادة تأطير وظيفة التعليم؛ من عملية نقل للمعرفة إلى مشروع لإنتاج الوعي، ومن منظومة تقييم بيروقراطية إلى فضاء معرفي مفتوح، يسمح بإعادة تعريف النجاح، والمشاركة، والإبداع.
في هذا المسار، تظهر إمكانات الذكاء الاصطناعي ليس فقط في دعم عمليات التعليم، بل في إعادة هندسة العلاقة مع التراث الثقافي واللغوي. فتقنيات التحليل الآلي للنصوص القديمة، والتعرف البصري على المخطوطات، والنمذجة اللغوية العميقة، تفتح أفقًا جديدًا أمام إعادة قراءة الذاكرة العربية، وتفكيك مركزية النموذج المعرفي الغربي، من خلال أدوات تنطلق من داخل اللغة العربية لا من خارجها.
لكن هذه الرؤية تظل رهينة لعوامل أعمق، تتعلق بقدرتنا على بناء عقد اجتماعي معرفي جديد، يعيد تعريف العلاقة بين التعليم والمواطنة، وبين التقنية والهوية. فالذكاء الاصطناعي يحمل في طياته إمكانات غير محدودة، لكنه أيضًا يُعيد إنتاج التفاوتات إذا ما تُرك للمنصات الكبرى تتحكم فيه من دون ضوابط ثقافية وتشريعية محلية. ولهذا، فإن الإدماج الحقيقي للتقنية لا يتم بالاستيراد، بل بالتحكم في شروط إنتاجها، وتوجيه استخدامها بما يخدم مشروعًا حضاريًا متكاملًا.
ليس من المبالغة القول إن رهانات التعليم في العالم العربي باتت مرتبطة مباشرة بقدرتنا على حيازة المعرفة كأداة سيادية. فالأسواق اليوم لا تدار فقط برؤوس الأموال، بل بمن يمتلك القدرة على بناء خوارزميات تتحكم في السلوك البشري، وتوجه الأذواق، وتُنتج المعايير. والمدرسة التي تفشل في أن تُدرّب طلابها على التفكير النقدي، وفهم بنية الخوارزمية، والتفاعل مع التقنية كمسؤولية حضارية، تُكرّس التبعية المعرفية.
في ضوء ذلك، فإن التفكير في التعليم العربي في عصر الذكاء الاصطناعي يجب أن يكون مشروعًا للنهضة، لا برنامجًا إصلاحيًا تقنيًا. ولا يكفي أن نُدرج الذكاء الاصطناعي في المناهج، بل يجب أن نُعيد عبره طرح السؤال الجوهري؛ أي معرفة نريد أن نُنتج؟ ولأي غاية نُعلّم؟ وكيف نحفظ للغة العربية مكانتها، دون أن نُحوّلها إلى مجرد وسيط لترجمة مفاهيم الغير؟
فإذا لم يتحول هذا السؤال إلى بوصلة للمؤسسات التعليمية، فسنجد أنفسنا في مشهد تُسيطر عليه أنظمة ذكية لا تنتمي إلينا، ومناهج تُدار من خارج ثقافتنا، وخريجون عاجزون عن فهم تعقيدات عالمهم. أما إذا نجحنا في تحويل الذكاء الاصطناعي إلى حقلٍ معرفي نُعيد من خلاله إنتاج موقعنا التاريخي، فإن المدرسة العربية قد تصبح من جديد فضاءً لتكوين العقل، لا فقط لتلقين المهارة.
إن ما نحتاجه ليس المزيد من الأدوات، بل خيالًا فكريًا يعيد بناء الجسور بين الإنسان والتفكير، بين اللغة وكرامتها، وبين التعليم ودوره في تشكيل الوعي المسؤول والمشارك في بناء مستقبل الدولة.